في مجموعتها الجديدة «السعادة» (دار الجمل)، لا تزال رنا التونسي تكتب شعراً يشبه اليوميات المباشرة والأفكار الشخصية التي يمتزج فيها اللعب الطفولي مع الواقع والرغبات. الطفولة لا تعني أن ما نقرأه يتصف بالبراءة وعدم النضج والسطحية طبعاً، بل هي سمة تجعل الكلمات والصور المصنوعة منها خفيفة ومحتاجة إلى نوع من الصَّنعة والحِرفة كي يتباطأ تأليفها وتمتلئ بالتأملات والخلاصات التي ستبقى ذاتية، لكنها ستكون (قد) حظيت بطبقات إضافية من الشعرية.
كأن الشاعرة المصرية الشابة المقيمة في الدوحة تكتب قصيدة واحدة منذ باكورتها «ذلك المنزل الذي تنبعث منه الموسيقى». لقد نضجت هذه القصيدة بالطبع، وتراكمت في داخلها تفاصيل وممارسات متعددة، لكن روح التجربة ودفقتها الأولى لم تتغيرا كثيراً. ليس مطلوباً من الشعر أن يحقق «نقلةً» نوعية بين ديوان وآخر، إلا أن صمود الانطباع الأول لدى القارئ يوحي بهذا التشابه الذي ربما يكون متوهّماً أو غير حقيقي. لا نحكمُ على هذا الشعر بقدر ما نسعى إلى وصفه ووضعه في سياق تجربة الشاعرة، وفي سياق تجربة القصيدة التي باتت تُعرف باليومية أو الشفوية أو قصيدة التفاصيل.
أغلب ما نقرأه في المجموعة يحدث قرب الذات ومشاغلها وأحلامها، والزاوية التي تنظر منها الشاعرة إلى عالمها الحميم والمتحرك داخل «تاريخ قصير» بحسب عنوان مجموعتها الرابعة. الشعر موجود في نثريات وتفاصيل تُختزل في سطور مشدودة، أو يُترك لها أن تسترخي في سردٍ أطول قليلاً. في الحالتين، نقرأ تأويلاتٍ وشذراتٍ ذاتية، إذْ «عليّ أن أخترع حكاياتٍ جديدة»، كما تقول الشاعرة التي تُبقي الكتابة قريبة منها أو في جوارها، فنقرأ: «كتبتُ بطاقةً صغيرة/ ووضعتها في جيبي/ كي أتعرف بها إلى نفسي»، أو «أبحثُ عن فراشة صغيرة/ لأقتلها بيدي وأتعرف على الرقة»، أو «لا يُزعجني أنّ قصائد الحب التي أرسلها إليك/ ترسلها أنتَ إلى حبيبة جديدة/ إعادة إنتاج الطمأنينة/ أن أعرف أنك تحبّ». اختراع الحكايات هو الرغبة في تحويل أية فكرة أو إحساس إلى برقية شعرية. البرقيات السريعة لا تنال عادةً حصتها من العناية والتنقيح والمراجعة، ولذلك نحس بأن الشعر متروك من دون حماية أحياناً. الكتابة تصبح نوعاً من المجازفة المحبَّبة التي يُحتمل أن تنتهي باستعارة موفّقة أو بأخرى عادية أو متوسطة الجودة. هناك خيط من الأسى والألم يلوح في بعض المقاطع والسطور، ويجعل الشعر أكثر كثافة كما في «وعندما لم أجد أحداً ينتظر/ ألتفتُّ إلى نفسي لأساعدها على الحياة»، وكذلك في «الآن وأنا وحيدة تماماً لا شيء يفرّق بيني وبين وحدتي»، وفي «العالم ما زال مبكراً/ لم يفتح عينيه بعد/ ليراني». في صور مثل هذه، يتعرض الشخصي والحميم لضربات شعرية أكثر قسوة، ولكن هذه الصور تتجاور مع صور عادية أو أقل إدهاشاً مثل «العالم الذي بلا أسماء/ يقتلني كي أرى القسوة/ يا رب يصبح لنا وطن/ يا رب ترجع لنا الأيام»، ومثل «أسمع صوت الحياة يغرّد في الخارج/ منْ سيفتح لي الباب لأخرجَ مني؟». تجاورٌ يجعل المجموعة كلها محكومة بالتفاوت في جودتها التي تصعد وتنحدر، بينما رغبة الشاعرة هي: «أريدُ أن أركض بدراجة مسرعة/ أصدمُ كل ما يواجه خيالي».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza