«الساحرة، مجاز الحياة» حسب تعبير جان بول سارتر. بسببها اندلعت حروب بين دول، وتقطعت علاقات. هي ليست مجرد لعبة، كرة تتقاذفها الأقدام. هي كل العلوم والفنون: السياسة والفن والأدب والطب والفلسفة. هي السحر الذي يخلب الألباب. فالحياة نفسها هي كرة قدم. في مدينة فاس المغربية، ازدحمت القاعة بجمهور الشاعر محمود درويش (1941 ـ 2008). كان هناك مئات آخرون لم يجدوا مكاناً في القاعة للاستماع للشاعر الذي صعد إلى منصة شاكراً جمهوره، ومتعجباً في الوقت ذاته من حضوره رغم وجود مباراة لكرة القدم بين فرنسا وإسبانيا. أضاف درويش: «أنا من جهتي أفضل متابعة المباراة ولو كان من سيحيي الأمسية هو المتنبي». درويش عاشق للكرة كتب كثيراً عن بعض مباراياتها. لم يكن درويش أول من كتب عن الكرة. كتب يوسف إدريس بورتريهاً بديعاً أيضاً عن نجم الكرة محمود الخطيب.

وأولى روايات نجيب محفوظ التي لم ينشرها كانت عن لاعب كرة. محفوظ نفسه كان لاعباً متميزاً في شبابه وطفولته. بدأت علاقته بالكرة عندما انتقل من منطقة الجمالية إلى العباسية، واصطحبه أحد أصدقاء الطفولة لمشاهدة مباراة بين فريق مصري وآخر انكليزي. كانت دهشة محفوظ عندما فاز الفريق المصري: «كنت أعتقد حتى ذلك الوقت أن الإنكليز لا يهزمون حتى في الرياضة». كان نجيب محفوظ أسرع لاعب في فريق «قلب الأسد» الذي يلعب عن منطقة العباسية. استمر في اللعب حتى 1930، وكانت اللعبة تعتمد على المهارات الفردية لا الجماعية. يتذكر محفوظ أن اللاعبين كانوا يرتدون ما يحلو لهم من زي، وقد لعب في كل المراكز تقريباً: قلب دفاع أحياناً، وهجوم أحياناً أخرى، لكنه تميز بالسرعة. لم يكن يسبقه أحد وقتها، حتى أصبح كابتن فريقه، وكما يقول: «استمر عشقي لها حوالى عشر سنوات متصلة، أثناء دراستي في المرحلتين الابتدائية والثانوية. لم يأخذني منها سوى الأدب. ولو كنت داومت على ممارستها، فربما أصبحت من نجومها البارزين».
يعقد الناقد المصري محمد بدوي مقارنة بين محفوظ لاعب الكرة وبين محفوظ الكاتب حيث انعكست مهارات اللعب على أعماله: «كان نجيب محفوظ في مراهقته لاعب كرة قدم مشهوراً بالمراوغة والحيلة والسرعة، ثم قرر في لحظة ما أن يهب نفسه للكتابة. هل بدأ محفوظ كتابته مصادفة في ما يسمّى في خطاب نقّاده «الرواية التاريخية»؟ وما العلاقة بين «المؤرخ» و«اللاعب»؟ المؤرخ شيخ جليل مولع بتقصّي الحقيقة. من أجل هذا، يتجشّم عناء البحث ومقارنة الوثائق والذهاب مع الاحتمالات حتى آخرها. أما اللاعب فعقله بين قدميه، هاتين القدمين المبصرتين القادرتين على مباغتة المتفرجين وكسر توقعاتهم وإدهاشهم. ويضيف: «محفوظ، هذا المزدوج الذي يتناطح فيه لاعب لاه ومؤرخ جهم، لا يذرف دمعة رثاء واحدة. اللاعب هو الكائن الذي يلعب من دون انتظار جدوى... فيما المؤرخ مهووس بالحقيقة، يتصورها منثورة هنا وهناك، وعليه أن يطاردها ويلمّ شتاتها ويجمعها ويبث الحياة فيها لتتألق. لكن حين يجتمع اللاعب والمؤرخ، نصبح مع الكاتب بحيث يندمج الاثنان فتتهاوى الحدود بين اللاعب اللعوب والمؤرخ الجهم. لا نعرف أين يبدأ أحدهما وأين ينتهي الآخر. كفّ محفوظ عن ممارسة كرة القدم ثم نذر نفسه للكتابة. لكنه، وهو يشيد صروحه الضخمة، الشبيهة بمعابد أسلافه وأهرامهم ومساجدهم، ويتقصّى الحقائق والأوهام والهواجس منتقلاً من كتابة تاريخ الدنيا في «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، إلى كتابة تاريخ مصر القديمة «أم الدنيا» في «رادوبيس» و«عبث الأقدار»، إلى كتابة القاهرة في العصر الحديث... كان دائماً منطوياً على اللاعب الذي تحوّل بالمران والدربة إلى ساحر يخلب ألباب المتفرجين، ويخلط السم والترياق والدمعة بالضحكة».
في كثير من قصائده، يستخدم صلاح جاهين مفردات من الكرة، رغم أنّه لم يمارس هذه اللعبة، اكتفى فقط بالتمثيل والشعر والرسم، وفنون أخرى. يقول في إحدى رباعياته: «أنا قلبي كوره.. والفراودة أكم/ يا ما انشطح وانشاط وياما اتعكم». وكان جاهين أهلاوياً متعصباً، وكان زميلاً لمحمود السعدني الذي يشجع بتعصب النادي الإسماعيلي. دارت بينهما على صفحات مجلة «صباح الخير» التي تزاملا فيها معارك بسبب الكرة. فقد كتب جاهين في المجلة مراهناً السعدني على قدرة الأهلي على الفوز ببطولة الدوري، لكن فاز الإسماعيلي وقتها. خسر جاهين الرهان. حتى لا يشمت فيه السعدني، ترك له رسالة: «عزيزى السعدني. هل ارتحت الآن وهدأت أعصابك؟ لقد كنت طوال الشهور الماضية، نسخة جديدة من الواد الشقي بتاع زمان، الذي لا يكتفي وهو يتعارك في الحارة بالطوب الذي يمطر به الخصم، بل يظل يلاحقه بسيل من الشتائم المنتقاة، تتخللها صرخات بكاء وهمي، من اعتداءات وهمية يدعي أنها حدثت عليه، حتى تتكامل عناصر المعركة المادية والمعنوية والدعائية، وينال من خصمه بكافة الطرق، أو بإحداها إن لم تفلح الأخرى. لقد سمعت أنهم في الإسماعيلية كانوا يهتفون لك ويصيحون: أكتب يا سعدني وقول لصلاح جاهين!».
وكما بدأ أحمد فؤاد نجم حياته الأدبية بديوان «حكاية الأهلي والزمالك» الذي استبعده من أعماله الشعرية الكاملة وقت صدورها، فقد اختتمها أيضاً بكتاب نثري بعنوان «يا أهلي يا حبي… يا حتة من قلبي».