لم يكن لهم موعد محدد، يصلون في أي وقت ومعهم كرتهم، يصطفون في جانب الملعب الذي لم يكن سوى ساحة ترابية لم يحتلها البناء بعد، يتابعون المباراة الجارية من دون تهليل أو تعليق، حين تنتهي المباراة ينهضون كرجل واحد، ويدخلون «الملعب» بهدوء، ليقابلوا الفائز.كان «النظام» وقتها يقضي بأن الفائز يحصل على أرض الملعب، يبقى فيها ليحدد من يلتقي، أو ربما لا يلتقي أحداً، وكانت تلك غالباً عادتهم. حين ينتصرون على الفائز، ودائما كانوا ينتصرون، يقسمون أنفسهم إلى فرقتين صغيرتين، تلعبان في ما بينهما لساعة أو نحو ذلك، ثم تنصرفان.
لكن الغريب، وما مّيزهم عن غيرهم، أن أحداً لم يسمع لهم أو منهم صوتاً، قط. ولا أي صوت.
لا قبل المباريات ولا بعدها، ولا - وهذا هو الأغرب- في أثنائها، يتحركون في الملعب بِكرة ومن دون كرة كمن يحفظ مهمته عن ظهر قلب، يذهبون في الأماكن المناسبة غيباً، إذا احتاج أحدهم إلى تمريرة اكتفى برفع يده. وإذا سجل هدفاً، يكتفي بالجري خطوتين أو ثلاثاً وهو يرفع قبضته، ويصافحه زملاؤه بلا كلام.
إذا طلبوا «فاول»، وقف أحدهم فيقفون جميعاً في إثره كالتماثيل ويشيرون إلى مكان الخطأ، وإذا ادعى عليهم أحد «خطأ»، إما يستجيبون -دائماً بلا كلام- وإما يهزون رؤوسهم ويستأنفون اللعب، فلا يجرؤ المنافسون على المعارضة.
في أحد الأيام، رفض أحد منافسيهم استئناف اللعب إلا بعد أن يحصل على «فاول»، توقفوا جميعاً، وأخذوا الكرة لينصرفوا، رفض المنافس انصرافهم وجذب أحد الصامتين من فانلته بقوة، التفت «المجذوب» إليه ووجه إليه أشد لكمة تلقّاها في حياته.
سقط المضروب على الأرض صارخاً، وانهالت الدماء من أنفه، تجمّع فريق الفتى المضروب حول الفريق الصامت، لكنهم لم يجرؤوا على أن يردوا الضرب، وقفوا أمامهم يصرخون، وزادوا الصراخ رويداً رويداً وانقلب إلى شتيمة بأشد الألفاظ، فلم يرد عليهم أحد، وقفوا صامتين يحدقون في شاتميهم بلا كلمة واحدة، صمت الفريق المضروب بالتدريج واتجه لاعبوه إلى زميلهم لينهضوه عن الأرض. هنا اتجه أكبر لاعبي فريق الصمت سناً إلى اللاعب الجريح ووضع يده على كتفه ونطق كلمة واحدة: آسف.
بخلاف صوته العميق، فقد بدت لكنته غريبة جداً كأنه أجنبي بالكاد يتكلم العربية. جعلنا ذلك ننتبه للمرة الأولى إلى أن سمار ملامحهم يختلف عن سمارنا بشكل طفيف، وانتبهنا إلى العيون الواسعة والأسنان البيضاء والعضلات البارزة، التي تجمعهم جميعاً. نطق الكابتن كلمة الاعتذار الوحيدة بلكنته الغريبة. وأمام أعيننا المتسائلة التفت إلى فريقه وأشار بيديه الاثنتين إلى الأمام مثل موجة، فتحركوا جميعاً إلى خارج الملعب بهدوء وصمت، رحلوا كتلة واحدة ما لبثت أن تفرقت إلى بيوتهم المجهولة في الأحياء البعيدة.
كانت تلك آخر مرة نراهم فيها، كم لعبنا الكرة لسنوات بعدها يا سيف ونحن ننتظر ظهورهم بين لحظة وأخرى، كنا ننظم المباريات والبطولات ونتبادل الفوز والخسارة بينما يداخلنا جميعاً إحساس أن الفوز الحقيقي هو ذلك الذي لم نستطع قط أن نحققه على فريق الصامتين.
لكن القصة لم تنته هنا، حتى ونحن نقف في سوق الأدوات الكهربية والخردوات الذي يقول بحر إنه كان في الماضي ملعبهم، يضيف: بعد سنوات، في بلاد البرد، رأيت الكابتن، في مهرجان ما كان نشاطاً للاجئين من بلدان مختلفة، رأيته واقفاً يتكلم مع آخرين في الجناح الأريتري. اقتربت منه متردداً، وألقيت عليه التحية مكتشفاً في تلك اللحظة أنني لا أعرف عنه شيئاً بما فيه اسمه نفسه، نظر إليّ بشيء من الدهشة ورد التحية وتابع كلامه مع الآخرين بذلك الصوت نفسه الذي اعتذر به في ذلك اليوم البعيد. وقفت قليلاً بالقرب منهم لا أعرف ما أقول، نظر إليّ مرة أخرى بنظرة متسائلة، فخفضت رأسي ورحلت، كنت، مثله الآن، هارباً، من مكان لآخر، وبجوار باب بيتي كانت تقبع دائماً حقيبة أكبر من هذه قليلاً.
ويهز بحر حقيبة أوراقه ثم يتابع: كانت تشتمل على أهم متعلقاتي، كنت أفعل ذلك لأكون جاهزاً للرحيل فوراً في اللحظة التي تقرر فيها الحياة ذلك على أي نحو، هجوم من شرطة الهجرة، هجوم من فريق آخر من المهاجرين، طرقات صاحب البيت يريد الإيجار، دعوة من صديق لأقيم معه في مكان جديد قد لا يكون أكثر من غرفة حقيرة في حي أحقر.
تعلمت ترتيب الحقيبة بعد أيام من دهس حذاء الضابط الثقيل لي في فناء المخفر. أعادونا يومها مرة أخرى إلى حجز الظلام والحشرات، لم أسمع أو أرَ سُها أو غيرها هذه المرة، ظللنا هناك لمدة ربما كانت يوماً أو يومين، أكثر أو أقل، ثم أخرجوا بعضنا وكنت ممن أخرجوهم إلى مدخل المخفر. كانت ثمة مكاتب يجلس إليها ضباط شبان يضحكون، وكان هناك بعض الشكاة وآخرون مقيدة أيديهم ووقف رجل يجمع طرف بنطاله من فوق الحزام ويسيل الدم من بطنه، ومع ذلك كان يتحدث مع الضابط كأن ليس به شيء.
أجلسونا على الأرض بجوار رجل يعد الشاي والقهوة للضباط والعساكر، وكان كل شيء حولنا يبدو طبيعياً جداً، كان القيد الحديدي يؤلم الرجل المقيد إليّ، فكان يتأوه بصوت يدمر الأعصاب بينما كنت أكثر نحافة من أن تؤذيني القيود. بالقرب مني، كانت امرأة ترتدي عباءة سوداء وتحمل حقيبة بلاستيكية بصحبة فتاة تبدو في الثانية عشرة، وكانتا تتكلمان ومن حين لآخر تنظران نحونا ثم تعودان لتتابعا الحديث. وظننت في البداية أنهما تتحدثان عنا، لكني بعد قليل أدركت الحقيقة، كانتا تنظران إلينا كما ينظر المرء حين تقع عيناه على كرسي أو خزانة أو أي شيء طبيعي في مجال بصره. كنا لا شيء أو قل كنا جزءاً من المشهد الطبيعي هناك، وسنظل كذلك حتى لو نزفنا دماءنا كلها على نحو الرجل الذي يجمع طرف بنطاله، وهنا، في تلك اللحظة، رأيت أمي وأبي.
كان أبي يتحدث مع عسكري عند الباب، وعلى ملامحه مزيج لم أره من قبل فيه ولا في أي إنسان. خليط عجيب من التعب والغضب والقلق والتذلل، وتمنيت لو تصاغرت حتى أختفي في فتحة من الفتحات التي صنعها النمل في الجدران، ثم رأيت أمي تنحني فجأة وتقبل يد العسكري.
من موقعي ومن موقعها لم يكن يصلني الصوت، كنت أرى المشهد صامتاً: جسد أمي الذي لم أره خارج البيت إلا نادراً، ينحني في مخفر الرائحة الكريهة ليقبل يد عسكري لا يملك لها ولا لي شيئاً، أمي تذل نفسها من دون أن تعرف أنها تفعل ذلك بلا مقابل، ورأيت أبي يتراجع وينظر إليها وكان يعطيني ظهره لكني تخيلتُ نظرته المذهولة. وأدركت ساعتها يا سيف: لو تمردت على الحياة، لو أردت صناعة ما تسميه قدرك «يا للتبجح»، فقد تذل الحياة أمّك... حرفياً.
لقد أخرجتني الحياة من المخفر يومها من دون أن تكون لذلك علاقة بقبلة أمي المذلة، تركونا في بهو المخفر إلى ما بعد العصر، ثم فكوا القيود وجعلونا نوقع أوراقاً وخرجنا، وقال لي الضابط مبتسماً وأنا أوقع الأوراق التي لم أرها إننا سنلتقي مرة أخرى قريباً.
ومنذ ذلك الوعد باللقاء، تعودت ترتيب تلك الحقيبة الصغيرة من خلف ظهر أمي، كنت أترك الحقيبة تحت الفراش حين كنت في بيت أهلي ثم بجوار الباب حين انتقلت إلى بيوت أخرى، كنت لتعرف بيتي أو للدقة البيت الذي أقيم فيه حين تجد حقيبة صغيرة جاهزة خلف الباب.
ولم تكن تضم ثياباً قليلة فقط، بل حتى الكتب في الحقيبة كانت صغيرة الحجم، معظمها كتب قصص مجمعة ومقالات وملخصات وموجزات. لقد بدأ معي آنذاك شعور عدم القدرة على قراءة الكتب الضخمة والروايات الطويلة، كان شعور قويّ يلازمني دائماً أنّ أحداً ما سيقتحم البيت قبل أن أصل إلى ربع الكتاب، وربما قبل أن أنهي المقدمة، ولازمني ذلك وامتد إلى بقية نواحي حياتي فكنت أفضّل أعمال نصف الوقت والعمل بالقطعة وأرفض أي التزام، تمحورت حياتي حول صيغة واحدة لا يمكنني من دونها أن أتنفس: أن أستطيع المغادرة في أي وقت، من دون أن أشعر بأنني تركت شيئاً ورائي، وظيفة، ملكاً، شخصاً، أو حتى صفحات كتاب.
لهذا لم يكن ممكناً أن أتعلم الطبخ مثلاً، لا وقت لديّ مع أن لدي كل الوقت. ثمة ساعة أخرى تدقّ داخلي تحذرني من الارتباط بأي شيء يدوم، لن آكل الطبق الرئيسي بل سأكتفي دائماً بالمقبلات، أرى في ذلك حياتي نفسها التي تكونت من العديد من الأطباق الجانبية بلا طبق رئيسي، بعض المال وبعض الحب وبعض النجاح المهني، ولكني لم أُعرَف قط بهذا أو ذلك أو ذاك.
ومع ذلك، فلم أعرف السعادة في العمل إلا في ذلك المطبخ البحري في الشمال، يقولون إن أعمال المطبخ هي الأكثر شقاء لكني كنت سعيداً هناك، كنت أقف لساعات لا أفعل شيئاً سوى غسيل الأطباق، أغسل وأغسل وأغسل، أطباق لا نهاية لها وكأنهم دعوا العالم كله إلى الغداء، لا يطلب مني أحد شيئاً سوى أن أواصل ما أفعل، لا ينتظرون مني أن أبدع أو أبتكر أو أقترح، لا شيء يبقى منّي أو عليّ ولا التزام. بعد نهاية ساعات العمل بخمس ثوان أكون في الشارع حراً إلى أن يحين اليوم التالي، كنت ترساً في آلة فيا لسعادتي آنذاك، يا لحظ التروس ليست مسؤولة عن شيء في الماضي ولا تختار شيئاً في المستقبل، لا ذنب ولا ضمير ولا مسؤولية.

* النصّ من رواية «سماء أقرب» (الكتب خان- القاهرة -2018)