في الحقيقة، تشمل عبارة «أحداث أيار/ مايو 68» أربعة سياقات مختلفة، لا شكّ في أنّ التداخل في ما بينها هو الذي أعطى المشهد الفرنسي خصوصيته خلال تسلسل الأحداث الذي امتد من عام 1968 (أو من نهاية عام 1967 أو حتى 1966) إلى عام 1976 (أو 1981، مع انتخاب الرئيس فرنسوا ميتران).فالسياق الأوّل في هذه الأحداث هو انتفاضة الشباب المتعلّم من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية. علماً أنّ هذه الفئة من الشباب كانت آنذاك أقلية (حوالى 10٪ من الحائزين شهادة البكالوريوس) منفصلة تماماً عن الشباب من الفئات الشعبية. ولكنّ هذه الانتفاضة اندرجت ضمن حراك عالمي هزّ أركان الصين الشيوعية تحت لواء «الحرس الأحمر» منذ عام 1966، وحشد أحرام الجامعات الأميركية لمناهضة الحرب على فيتنام، وأثار سخط البرجوازية الألمانية المحافظة (رودي دوتشكه)، وأدّى إلى المجزرة بحق الطلاب في المكسيك، فضلاً عن أحداث كثيرة أخرى. كذلك، فقد كان هذا الحراك مؤدلجاً بشدّة، إذ شكّل ساحة لجميع التوجهات التي أنتجتها أزمة البلشفية الستالينية، من تروتسكية وماوية ولاسلطوية... إلا أنّ هذا الحراك كان أيضاً محصوراً ضمن منطق المؤسسات الأكاديمية، التي جهد لـ «إصلاحها»، ما شكّل توجهاً إشكالياً بالحد الأدنى.
من ناحية أخرى، تمثّل السياق الثاني لهذه الأحداث في نوع من اندفاعة تحررية ضد التقاليد، أو، بشكل عام، في ما يخص العلاقة بين الحياة العادية وطابعها المثالي. وقد جمع هذا السياق ما بين المطالبات المتعلقة بالجنسانية وأوجه الثقافة المضادة «الشابة»، حيث لعبت أنواع الموسيقى الجديدة، وخاصة موسيقى الروك، دوراً كبيراً، وحيث اكتسبت المخدرات وظيفة رمزية مهمة، تمثلت في البحث عن «أنماط حياة» جديدة، وفي النقد الجماعي للهيمنة المؤسسية على النشاط الفنّي.
أمّا السياق الثالث فهو النشاط العمّالي. ولعلّ التعبير الأمضى عنه كان في الإضراب العام خلال شهري أيار (مايو) وحزيران (يونيو)، أو بشكل عام، التحرك الذي انطلق منذ عام 1967 وقد أسماه خافيير فينيا «العصيان العمّالي». واللافت في هذا السياق استخدامه لوسائل عمل جديدة عبّرت عن راديكالية جديرة بالتقدير.
نشأت روابط جديدة بين الشباب المثقف والعمّال، مما أعطى الحراك آفاقه المستقبلية


وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنّ المكوّن الرابع تمثّل في القواسم المشتركة بين السياقات الثلاثة السابقة، وخصوصاً الأول والثالث منها. فقد نشأت مسارات وروابط جديدة بالكامل بين الشباب المثقف والعمّال، أو الفئات الشعبية عموماً (بما في ذلك عمّال المصانع وسكان الأحياء والمساكن الجماعية والأسواق...). وهذا المكوّن الرابع هو الذي أعطى الحراك آفاقه المستقبلية، من خلال طرحه أشكالاً جديدة للتدخل والعمل والتنظيم، كلها قائمة على الروابط المباشرة بين مكوّنات اجتماعية مختلفة في طبيعتها، ولكن من دون وساطة «الحزب» المفرّقة.
ويمكن القول إنّ التبلور الكامل لهذه السياقات الأربعة، وخصوصاً الأخير منها، وهو الوحيد الذي حمل ديناميات جديدة على الصعيد السياسي، حصل بشكل أساسي في الصين وفرنسا وإيطاليا. ولا شك في أنّ الحالة الصينية تشكل ميدان دراسة منفصلاً، نظراً إلى كونها دولة اشتراكية بُنيت بادئ الأمر على أسس سوفياتية. إلا أنّ الأحداث الصينية أثّرت في الوضع في فرنسا بشكل مباشر، خصوصاً عبر اعتماد مبدأ «الخط الجماهيري»، الذي وجّه أنظار آلاف الطلاب الشباب نحو المعامل والأحياء الشعبية. أمّا في إيطاليا، فقد ساد مفهوم «الاستقلالية العمالية». باختصار، يمكننا القول إنّ الجديد السياسي الذي حملته أحداث أيار (مايو) 68 وتبعاتها في فرنسا تمثلت في «الماوية».
وقد اشتملت هذه «الماوية» على ضرورة تخطّي الفصل بين مكوّنات الحالة الثورية المختلفة. ولتحقيق ذلك، توجّب بناء تنظيمات جديدة، من جهة عبر الإفادة من زخم الحراك، ومن جهة أخرى عبر استبطان النشاط السياسي بشكل دائم كحالة فكرية في المناطق الشعبية حيث تتم ممارسة هذا النشاط. لذا، كان من الضروري أن ينتقل المثقفون نحو المصانع والمساكن الشعبية. كذلك، ووفقاً لأحد أبرز شعارات الثورة الثقافية في الصين، كان على العمّال «الدخول إلى الجامعات»، والقدوم إلى أبواب المدارس للتعريف بعملهم وبتنظيماتهم الجديدة. أمّا الشعارات العامة المتعلقة بالضرورة الأولى (أي «الفعل»، القادر وحده على إضفاء طابع ثوري على الأفكار القديمة)، فكانت «من حقّنا أن نثور» و«ولادة التنظيم من رحم الصراع الطبقي». أمّا الشعارات المنادية بالضرورة الثانية (أي توفير مساحات منظمة مشتركة بين العمال والشباب المثقف) فكانت «الخط الجماهيري» و«خدمة الشعب» و«إنشاء مساحات سياسية». وكان من الضروري أن يكون الزمن بنفسه جديداً. مقابل العجلة التي اتّسم بها مناصرو «الحراك الصرف» (أي اللاسلطويون بمختلف توجهاتهم)، كان الماويون ينادون بفكرة «الحرب المطوّلة». وفي مقابل واقعية أنصار السياسة البرلمانية التقليدية، الذين رأوا أنه ينبغي الانضواء ضمن الأحزاب القائمة والمشاركة في الانتخابات من أجل العمل بشكل جماعي، كان الماويون يقدّمون حجة مضادة تتمثل في صبر التجارب المحلية، التي يمكن تعميمها بعناية، مستندين هذه المرة إلى شعار ستيفان مالارميه «العمل المضبوط».

* فيلسوف وكاتب فرنسي ــ مقتطف من كتابه الجديد «من حقنا أن نثور» ـ On a raison de se révolter (منشورات فايار ـــ 2018)