تساءلتُ وأنا أكتبُ هذه المقالة: تُرى متى بدأت علاقتي الشغوفة بالراديو؟ لا شكّ في أنّني مغرومةٌ به منذ زمن بعيد، ربّما منذ أيام دراستي الجامعية في الخارج، حيث كنت أركنُ إليه في فترة ما قبل النوم. لكنّ الراديو كان حاضراً في حياتي، بل في حياتنا جميعاً، في فتراتٍ وظروفٍ أكثرَ مأسويةً: كان الرفيقَ الضروري في زمن الحرب، فمن دونه نعرّض حياتنا للخطر، بكلّ بساطة! نعم. كان علينا أن نستمعَ إليه قبل الخروج من البيت لنعرف أولاً إذا كان بإمكاننا أن نخرج من البيت.
ولنعرف ثانياً إلى أين يمكننا أن نذهب، وكيف، أيْ من أيّ طريق. كما كان علينا أن نصغي إليه عند سماعنا أيّ صوت مريب: رصاص، قصف، خبطة... كان الراديو نجمة المرحلة بلا منازع. وكان يأتي، كجهاز، بكلّ الأشكال والأحجام والألوان. ولكن «الموديل» الطاغي كان الترانزستور الصغير الذي يمكن وضعه في الجيب، لأنّه كان على اللبناني الحريص على سلامته أن يأخذَ الجهازَ معه أينما ذهب، وخاصة إلى الملجأ: فقط ليعرف متى يستطيع أن يطلع منه! وربما اخترعت اليابان، الرائدة حينها في هذا المجال، أو ربما حتّى طوّرت أجهزة راديو خاصّة بنا تتلاءم مع حاجات السوق اللبنانية! إنّ مشهد الترانزستور الصغير الملصوق لصقاً بالأذن هو ربما من أبرز مشاهد الحرب في لبنان(1).
لكنني كنت صغيرةً في الحرب، وكان أهلي هم من يستمعون إلى الراديو، مع عموم الشعب اللبناني. لذا عدتُ وتساءلت: هل لغرامي بالراديو علاقةٌ بالطفولة؟ فأنا كنت، كما سائر الأطفال، لا أغفو إلّا على القصصِ التي تقرأها لي أمّي، أو يخبرني إياها والدي. فهل استبدلَ الصوتُ الخارجُ من الآلة قصصَ قبل النوم؟ ربما، أفكّر. علاقتنا، أنا والراديو، تغيّرت كثيراً منذ سنوات. فلقد دخل عليها اثنان لم يغيّرا حياتي فحسب، بل أيضاً علاقتي بجهازي المفضَّل. أدخلتني الأمومةُ ومسؤوليات البيتِ التي تبعتها، في زمنٍ وإيقاعٍ مختلفيْن. صارت مهمّاتي، خاصّة في إعداد الطعام، تستحوذُ على معظم وقتي الصباحيّ. لكن، في المطبخ، أعمالٌ يدويةٌ تُشغل يديَّ، وتُبقي على أذنيَّ جاهزتيْن للسمع. هكذا، في ذلك المكان الدافئ، بين الخضار النضرة المُقَطَّعَة، وروائح البهارات، وبخار الطبخة المنهنهة، وقرقعة الصحون في المجلى، استقرّ جهاز الراديو. وصدح الصوت.
أحبُّ كيف يرتبطُ الراديو بالأعمال اليدويّة. أعرف كثيراً من الحرفيّين ترافقهم الإذاعة خلال عملهم: جارنا الخيّاط مثلاً، يضع الراديو مباشرةً مقابل مكنة الخياطة التي يعمل عليها. والمنجّد الذي أتعاملُ معه، يعلّقُ الراديو الصغير على مسمارٍ في الحائط. والميكانيكي في أسفل الشارع، يضع الراديو على رفٍّ عالٍ كي لا يتّسخ. الراديو رفيق العمل اليدويّ، فكّرت، وهؤلاء العاملون اليدويون هم رفاقي في السمع. أتخيّلهم أحياناً وأنا أطبخ، أتخيّل ما يقومون به، وأتساءل إن كانوا يستمعون إلى نفس الإذاعة التي أستمع إليها. أعرف أنّي وجاريَ الخيّاط نستمع إلى نفس البرنامج السياسيّ الصباحيّ. وأعرف أنّ خالتي تستمع إلى إذاعات لا أستمع إليها كثيراً. أحياناً نتحدّث عما سمعَتْه كلّ منّا على الراديو. هي تخبرني عن التحليلات السياسية في برنامجها المفضّل، وأنا أنقل لها آخر آراء المحلّلين على برنامجي... ثمّ أتساءل: كم من الناس يتشاركون نفس التعلّق بالراديو، رغم اختلافاتهم في الآراء والعادات والعيش؟ وأفكّر: نحن جماعةٌ واحدة تتشارك الاستماعَ، نحن جماعة المستمعين والمستمعات. أحياناً، أشعر حتّى بأنّني جزءٌ من جماعة أكبر: جماعة اللبنانيين العالقين في سياراتهم في زحمات السير التي لا تنتهي. أتخيّل حينها أنني أتشارك حالةً واحدةً مع جماعةٍ عريضةٍ (هل أسمّيها شعب؟) يستمع أفرادها، كلٌّ على هواه، إلى إذاعته. فيما الزحمة توحّدنا و... الراديو.
حبّي للراديو هو حبٌّ للنوعِ الإعلاميّ الإذاعيّ بحدّ ذاته، أحاول فيه ألّا أميّز، فأستمعُ إلى كلّ الإذاعات، بدرجات متفاوتة طبعاً، وأحتفظ بحقّي في تفضيل إذاعةٍ على أخرى(2). أمضيتُ سنين أتابعُ البرامج، من باب الترفيه أولاً خلال الأعمال المنزلية، وثانياً من باب الشغف بالتحليلات السياسية، والبرامج الثقافية - إذا وُجدَت! - وتلك المعنيّة بالشأن المحليّ، أيّاً كان. وكان لا بدّ من أن أقارنَ خلال هذه السنوات بين الإذاعات، وأتعرّف إلى خصوصيّات كلّ منها، وإلى نقاط قوّتها وضعفها. هكذا استنتجتُ أنّنا، إذا ما وضعنا جانباً الإذاعات المخصَّصة للأغاني والحوارات الخفيفة، لدينا في لبنان مجموعةُ إذاعاتٍ جديّةٍ ومحترِفَة في تعاطيها مع رسالتها الإعلامية. تتشارك كلُّها تقريباً في تقديم الباقة المتنوعة نفسها من البرامج في مجالات عدّة: سياسة، صحّة، بيئة، بلديات، تربية واجتماع، رياضة، إلخ... لكنّني استطعتُ، من خلال خبرتي «السمعيّة»، أن أستشفَّ ما تتميّز به كلّ إذاعة، أو على الأقلّ ما يلفتني فيها.

شعرتُ بأنّني أبني ثقافةً محليةً تجعلني أتواصل مع طبقات وأحياء خارجة عن المركز الثقافي النخبوي الذي هو بيروت

لا يسعنا إلّا أن نبدأ بأقدم إذاعة، التي هي إذاعتنا الرسمية: «إذاعة لبنان»(3). إذاعة تعاني، كما تلفزيون لبنان، من غياب التمويل الرسمي الجديّ لها. لكنها تنفرد عن غيرها بتقديمها برامج معنية بإرثنا الشعبيّ، وذلك في قالب مُمَسرح حواري طريف يستعيدُ مسارَ شخصيات بارزة من تاريخنا (أذكر حلقة عن عمر الزعنّي مثلاً)(4). وإذا سرنا بالتسلسل التاريخي، نقفُ عند «إذاعة صوت لبنان»(5) التي تتمتّع، بحكم مسارها الطويل، بخبرة أكيدة في إعداد البرامج المتنوعة واختيار الإعلاميين المحترفين. لفتتني عدّة برامج تقدِّمُ فيها الإذاعة معرفةً مهمّةً للجمهور، أذكر منها برنامج يستضيف عالم نفس يتطرّق في كلّ حلقة إلى مشكلة بعينها. أمّا «إذاعة لبنان الحرّ»(6)، فهي شبيهةٌ بإذاعة «صوت لبنان» من حيث الخبرة والمسار الطويل. أستمع أحياناً إلى برنامج أعجبتُ بالثقافة الموسيقية التي يقدّمها. و«صوت الشعب»(7) تتميّز بأنّها الإذاعة الوحيدة السياسية غير الطائفية! وتتميّز بتخصيصها فترات طويلة لأغاني زياد الرحباني ومسرحياته. وهذه أتابعها متى استطعت. لا شكّ في أنّ «إذاعة الشرق»(8) عاشت، كما تلفزيون «المستقبل»، زخماً كبيراً ومهمّاً في فترة حكم الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كنت أستمع في فترة ما إلى برنامج حواريّ مع الناس في فترة قبل الظهر، وأعجبتُ بمقدِّم البرنامج وأسلوبه الهادئ في الحوار مع المستمعين. أمّا «صوت المدى»، فهي حديثة العهد مقارنة بسابقاتها، وليس لديها بعد باقة برامج مكثّفة مثل غيرها. أستمع أحياناً إلى برنامج سياسي حواري، خاصة إذا كان الضيف مميَّزاً. أشير أيضاً إلى «إذاعة البشائر»(9)، وهي أقلّ انتشاراً من سائر الإذاعات، ولكنني أعجبت كثيراً بعدد من برامجها، خاصة التربوية والفكرية، حيث النقاش نوعي وذات مستوى ويدلّ على ثقافةِ الإعلاميين/ات وجديّتِهم. وأنهي هذه الجولة بإذاعة تبثّ فقط لبضع ساعات هي «صوت بيروت ولبنان العربي»، والتي استمعتُ على أثيرها إلى مسلسلات إذاعية شعبية لفتتني جداً، إذ
إنّها تحاكي عيش سكان بيروت ومشاكلهم بشكل طريف.

ولكن. ماذا يجمع معظم هذه الإذاعات اللبنانية، وغيرها، في فترة محدَّدة؟

لا، ليست نشرات الأخبار. ولا البرامج. ولا الدعايات. ولا فذلكات المذيعين والمذيعات. ولا اتصالات المستمعين. لا. إنّ ما يجمع الإذاعات اللبنانية هو صوت فيروز الذي يطلع على الجميع، فيما يطلع على الجميع أيضاً فجرُ نهارٍ جديد. الراديو الذي يجمعنا كلّنا في زحمة السير، يجمعنا على أغاني فيروز في الصباح الباكر. مهما كانت آراؤنا وطبقاتنا ومناطقنا، ثمّة لحظة جامعة، هي لحظةٌ نتجلّى فيها كجماعة: كلبنانيين. عندما يصدح صوت فيروز من كلّ الإذاعات. أتخيّل أحياناً تلك اللحظة وكأنّها مشهد في فيلم. صوت فيروز. يتوقّف كلّ شيء. أناس من كلّ الأعمار والطبقات والطوائف، ينصتون إلى الصوت نفسه ويردّدون الأغاني نفسها عبر أثير إذاعات مختلفة، في صباح نهار يبدأ. ثمّ يذهب كلّ في طريقه.
نعم. لا يخفى على أحد أنّ الإذاعات، كما القنوات التلفزيونية، كما كلّ شيء في لبنان، مفروزة طائفياً وسياسياً. لكلّ جهة سياسية و/أو طائفية الوسيلة الإعلامية الخاصّة بها. وهذا من شأنه فرز المستمعين اللبنانيين إلى كتلٍ طائفية ــ سياسية، تستمعُ كلُّ واحدةٍ منها إلى الإذاعة التي تمثّل، برأيها، توجّهَها السياسيّ و/أو الطائفيّ. هذا لبنان، أقول... لكن، أتساءل أحياناً، صدقاً: ألا يشعرُ أفرادُ كتلةٍ ما برغبةٍ في الاستماعِ إلى إذاعةٍ غير تلك التي ينتمون إلى خطّها؟ فقط من باب الفضول والاكتشاف؟ يعني كمن يركب سيّارته ويذهب صوب منطقة أو ناحية لا يعرفها؟

«إذاعة النور»: المقاومة بالمعرفة (10)

على سيرة التكتّل الإذاعيّ اللبنانيّ، لا أشعر بأنني أنتمي بقوّةِ التحزّبِ إلى أيٍّ من الكتل التي تستمع إلى ما تعتقد بأنّها «إذاعتها». وأنا، بهذا المعنى، لا أنتمي إلى كتلة مستمعي «إذاعة النور». لكنني، بحكم المتابعة، طوّرتُ إعجاباً بهذه الإذاعة، كمستمعة عادية أولاً، وكباحثة ــ مراقبة ثانياً. سأحاول أن أشرح لماذا:
على اختلاف كلّ الإذاعات التي ذكرتُ، لا تتميّز «إذاعة النور» ببرنامج واحد أو بباقة برامج متنوّعة فقط، ولا بإعلاميين محترفين فقط. لهذه الإذاعة خصوصيّةٌ لا تُشاركها فيها أيٌّ من الإذاعات: فهي أشبهُ بمكانٍ أو ببيتٍ نشعرُ عندما ندخله بأنّ له طابعاً خاصّاً به. ثمّة روحٌ فريدة تنبعث من أثيرها. أعرف ذلك لأنني عندما أشغّل الراديو، أحسُّ مباشرةً إن كنتُ على «إذاعة النور» أو لا. لهذه الإذاعة شخصيةٌ إن شئنا، وسماتٌ نعرفها من خلالها. ربّما هو هذا الهدوء التي نسمعه، والذي يأتي من غياب الأغاني الصاخبة والدعايات المضجّة. ربما هو إلقاء المذيعين والمذيعات الخافت والرصين. ربما هي حاجتي لمثل هذه السكينة تجعلني أستكين إلى هذه الروح الخَفِرَة. ربما هو الشعور بالاطمئنان وبالثقة حين أسمعها...
عدا هذه الروح التي تلفّ أثيرها، تقدّم «إذاعة النور» برامجَ تشبه بلا شكّ، في موضوعاتها، الإذاعات الأخرى، ولكنها تتميّز بالتركيز على المقاومة والعدو. تنفرد «إذاعة النور» بتكريسها عدداً من البرامج لقضيّة فلسطين، ولرصد إعلام العدوّ الإسرائيلي ومجتمعه. وهذه هي من البرامج المفضّلة عندي، وأذكر منها «فلسطين القضية» و«المرصاد»(11). هل من الضروريّ تأكيد أهميّة هذه البرامج في تكريسها لحقيقة الصراع وأبعاده، في وقتٍ يعمل فيه كلّ أعدائنا على إلهائنا بصراعات أخرى، بل على تذويب وجود الصراع من أساسه؟ إنّ المعرفة التي تقدّمها هذه البرامج، المعرفة التاريخية والجغرافية والإعلامية والإجتماعية، هي بلا شكّ من أهمّ وسائل المقاومة. تتميّز «إذاعة النور» أيضاً ببرامج ذات نوعيّة جديّة ليس فيها أيّ «طق حنك» أو ثرثرة، يقدّمها إعلاميون، ولا سيما إعلاميات، محترفون، يتحدّثون بلغة عربيّة سليمة موزونة، ولديهم إحاطة ممتازة بموضوعاتهم، ولا يكتفون بسؤال الضيف كي يحصلوا على المعلومة منه، كما يفعل آخرون يريدون من الضيف أن يقدّم هو المعرفة. فتقديم المعرفة يتطلب اثنيْن: محاوِر ومحاوَر.
في هذا الإطار أقدّر عالياً البرامج المعنية بالشأن المحليّ، في كلّ الإذاعات. لكن يبدو أنّ «إذاعة النور» قد أعطت الحيّز المحليّ أهميةً بالغة. أتابع بإعجاب برامج مثل: «حكي بلدي»، «السلامة المهنية»، «التربية بذكاء»، «الاتجاه الصحيح» (معالجة مشاكل اجتماعية). أحببتُ كثيراً برنامجاً تحاور فيه المقدِّمة ضيفاً هو ممثِّلٌ لمهنة. أذكر أنّ أحد الضيوف كان يحكي مثلاً عن تاريخ مهنة الخياطة في لبنان وتراجع دورها، واستمعتُ إلى آخرين يتحدثون عن مهنة الحدادة أو مهنة تصليح الأدوات الكهربائية. كذلك أحببتُ البرنامج الذي يستضيف رئيس بلدية ليتحدّث عن إنجازات بلدته، فاكتشفتُ كم من البلديات في الجنوب والبقاع مثلاً تقوم بمبادرات وبمشاريع ريادية مهمّة. وتابعتُ عدّة مرّات برنامجاً للأطفال اسمه «قصتنا قصة»، وفكرته رائعة: تقوم على جعل الأولاد المتّصلين يكتبون قصّةً ولد بعد ولد، جملة بعد جملة(12). وأتابع أحياناً في السيارة برنامج «فرصة عمل» الذي يسمح لي بالتعرّف إلى وضع سوق العمل والعمّال. هكذا شعرتُ، وأنا أستمع إلى إذاعات لبنان، وإلى «إذاعة النور» بشكل خاصّ، بأنّني أبني ثقافةً محليةً تجعلني أتواصل مع طبقات ومناطق وأحياء خارجة عن المركز الثقافي النخبوي الذي هو بيروت.

تحيّة خاصّة

أسمحُ لنفسي أخيراً بأن أشير، مع احترامي وتقديري لكل الإعلاميين/ات العاملين/ات في «إذاعة النور»، إلى الإعلامية التي أعرف صوتَها من بين كلّ الأصوات الإذاعية. أنتظرُ كلّ يوم وصولَ نبرته المنعشة عبر أثير «إذاعة النور». أتحايل في توزيع أوقات عملي بين الكتابة وإعداد الطعام، كي أكون على السمع. وإذا ما كنتُ خارج المنزل، فإنني أتحايل أيضاً على الوقت كي أكون في السيارة وأستمع إلى الراديو. وعندما يتعذّر عليّ هذا التحايل أو ذاك، أستمع إلى إعادة البرنامج ليلاً قبل الإخلاد إلى النوم، أو على الموقع الإلكتروني. فهذه الإعلامية لا تتميّز فقط بثقافة واسعة وباحترافية عالية، بل تنفرد بنباهتها الصائبة وبخفّة ظلّها التي تضفي على برنامجها السياسيّ الجديّ طابعاً محبَّباً. ومن النادر أن نجد هذه الصفات كلّها مجتمعة في فردٍ واحد في الجسم الإعلاميّ. تتجلّى الاحترافية العالية أوّلاً في مدى إعدادها الجديّ لبرنامجها، فهي حين تقرأ مقتطفات من الصحف في الجزء الأوّل من البرنامج، تكون قد أعدّت جيداً لهذه الفقرة، فتقرأ بصوت واضح ومتماسك فقرات قد انتقتها ودرستها مسبقاً وعيّنت الوقت المحدّد لتقديمها. أما إذا دهمها الوقت، فلديها القدرة للاختزال السريع وإنقاذ الموقف من دون أن تشعرنا بضغط الوقت عليها(13). وتتجلّى هذه الاحترافية خاصّةً في الفقرة التالية من البرنامج، وهي فقرة محاورة الضيف. هنا بالذات تُبرز هذه الإعلامية كلّ قدراتها: فهي تتهيّأ دوماً لاستقبال الضيف، ويظهر ذلك من خلال تخصيص فقرة بسيطة تقدّمه من خلالها إلى المستمعين، ثم تدخل في محاورة تنمّ عن مدى متابعتها لأحداث الساعة ومدى اطّلاعها على ما يكتب في الصحافة المحلية والعربية والدولية. وتنفرد هذه الإعلامية بخاصية مهنية لا نجدها عند غيرها: فهي لا تنفكّ تُذكِّرُ باسم الضيف أو الضيفة خلال الحوار، في كلّ مرّة توجّه فيها سؤالاً له/لها («شو رأيك، أستاذ فلان، بكذا؟ بدنا نعرف منّك، دكتورة فلانة، شو المعلومات...»).

إنّ ما يجمع الإذاعات اللبنانية هو صوت فيروز الذي يطلع
على الجميع
هذا التذكير هو من بديهيات الحوار الإعلامي الإذاعي، وهو يعكس احتراماً للمستمعين. لذلك «أتحرقص» عندما أستمع إلى حوار إذاعيّ لفترة معيّنة دون أن أعرف من هو الشخص المحاوَر، لأنّ المحاوِر/ة لا يذكر اسمه! فإذا لم نستمع إلى الحوار من الأوّل، لم نعرف إلى من نستمع، سوى أنه «معالي الوزير»، أو «سيادة النائب»! أمّا النباهة الصائبة التي تتمتّع بها هذه الإعلامية، فإنها تظهر في تدخّلاتها السريعة على الضيف، في زمن يخلط فيه كثير من الإعلاميين بين النباهة والتذاكي، أو حتّى الوقاحة. أما خفّة الظلّ فإنّها لا تتحوّل إلى سماجة أو افتعال، بل توظَّف لدعم الحجّة وتبيان أو استيضاح الموقف أو الجواب. وأخيراً وليس آخراً، فإنّ هذه الإعلامية هي الوحيدة على حدّ علمي التي تقدّم، في نهاية البرنامج الحواريّ، ملخَّصاً نسمّيه بالفرنسية «سانتيز» (synthèse) عن أهمّ ما قاله الضيف. وهو تمرين صعبٌ لا يُستهان به، حاولتُ جاهدةً خلال سنوات تدريسي في الجامعة أن أبثّ فوائده بين الطلاب. وبالفعل، حصلَ وأن أثنى عددٌ من الضيوف على هذا التلخيص المتين الذي تقدّمه في نهاية البرنامج على شكلِ إعادةِ صياغةٍ مختزلةٍ وواضحةٍ لكلّ ما قيل. إنها بثينة علّيق: أداءٌ إذاعيٌّ مُضيء في ساحتنا الإعلامية اللبنانية(14).
... لا أعرف إن كان أحد قد راقب عن قرب أجهزة الراديو التقليديّة: في بعضها، تسير الإبرة العمودية على خطّ موجات أفقيّ، وفي بعضها الآخر، تسير أفقيةً على خطّ موجات عموديّ. لكن هذا ليس إلّا اختلافاً في الشكل أو في جمالية تصميم الجهاز. ففي كلتا الحالتين، وإذا ما «برمنا الزرّ»، ستصل الإبرة دوماً إلى موجتها المرجوّة. لكن، ما لاحظته عند كثير من أجهزة الراديو، أنّ الإبرة تبدو وكأنّها لا تفارق موجةً بعينها، هي بلا شكّ محطّة المستمع/ة المفضَّلة... وأحياناً لا أتمالك نفسي، فأروح أفكّر في هذه الإبرة، وكيف أنّها قد تعلَق في مكانها من قلّة تحريكها. أخشى عليها من الغبار الذي أعرف أنّه سيتجمّع حولها. أشعر بأنّها ستصبح ثقيلةً بليدةً من قلّة الحركة. وقد تصدأ حتّى... فتتعطّل قدرتها على التنقّل.
أصير أتخيّل... أتخيّل الإبرة وهي تنظر إلى الموجات الأخرى، بينما هي عالقة في محطّتها. وأفكّر: هل بدأت تتوق للسفر إلى جهات غريبة؟ هل تحلم بركوب الموجات، والقفز من واحدة إلى أخرى؟ ربّما أرادت أن تصير كالفراشة، تطير هنا وهناك، ولا تستقرّ في مكان. أراها وكأنّها تحاول زحزحةَ جسمها المغروز في الصدأ. ثمّ أراها تتحلحل. تتجّه قليلاً إلى اليمين، ثم قليلاً إلى اليسار، تكتشف هواءً مليئاً أنغاماً وكلماتٍ وقصصاً وأصواتاً لم تكن تعرفها. تتشجّع. فتطيل السفر صوب أقصى اليمين وأقصى اليسار. على الطريق، محطاتٌ كثيرةٌ تستوقفها، كلّ منها بلون ونكهة. تخاف قليلاً. تعود مسرعةً إلى محطّتها القديمة المفضّلة، وتمكث فيها ريثما تبدّدُ مخاوفَها. لكنّ طعم السفر والمغامرة الذي ذاقته ما زال يدغدغ رغبةً دفينةً فيها. هل ترحل؟ وإن رحلت، فهل تعود؟ لن تعرف إذا لم تجرّب... ستجرّب، فموجتها المفضَّلة لن تذهب إلى أيّ مكان. وهي ستعود إليها بلا شكّ... تُرى، هل تخسر شيئاً إذا جرّبت؟ نعم... ربّما شيئاً من ذاتها... في الآخر.
* أكاديمية وباحثة لبنانية

المراجع

(1) لقد استعمل زياد الرحباني هذه الخاصيّة اللبنانية في مسرحيّته «فيلم أميركي طويل»، حيث الراديو حاضر، مثل شخصيةٍ مسرحيةٍ، على الطاولة في مقدمة الخشبة. وثمّة واحد من نزلاء مستشفى الأمراض العقلية، مهووس بسماعه. لا ننسى هنا أنّ زياد بدأ مسيرته على الإذاعة (مع جان شمعون منتصف السبعينيات في برنامج «بعدنا طيّبين... قول الله» على «إذاعة لبنان»). وهذه حال كثير من المبدعين، من أمثال الرحابنة وفيروز، ونهاد قلعي ودريد لحام، وكثير من النجوم المصريين.
(2) هكذا لا يقتصر سماعي على الإذاعات اللبنانية، بل أنا من المستمعين الدائمين والمواظبين لإذاعة «فرنسا الدولية»، وبدرجة أقلّ إذاعة «بي بي سي العربية» و«مونتي كارلو»، و«ن.ب.ر» الرسمية الأميركية.
(3) «إذاعة لبنان» هي من أقدم الإذاعات في العالم العربي. أنشأها الانتداب الفرنسي عام ١٩٣٨ باسم «راديو الشرق»، وفي نيسان ١٩٤٦ انتقلت ملكيتها إلى الدولة اللبنانية، وأصبح اسمها الرسمي «الإذاعة اللبنانية». وفي السبعينيات أصبحت تعرف باسم «إذاعة لبنان». ويكيبيديا.
(4) حاولت معرفة اسم البرنامج، لكنني لم أوفّق، فلعلّه لم يعد يُبثّ؟
(5) أسسها حزب الكتائب عام ١٩٧٥ كأول إذاعة حزبية وتجارية في لبنان. ويكيبيديا
(6) أسستها القوات اللبنانية عام ١٩٧٨ كإذاعة حزبية وتجارية. ويكيبيديا.
(7) أسسها الحزب الشيوعي اللبناني عام ١٩٨٧ كإذاعة حزبية وتجارية.
(8) إذاعة «صوت الشرق» تبث من بيروت ومن باريس. تعرف في فرنسا باسم «راديو أوريون». أسسها رجل الأعمال اللبناني الفرنسي المقيم في باريس رغيد الشماع، وبيعَت للرئيس رفيق الحريري نهاية عام 1994. ويكيبيديا.
(9) أسسها السيد محمد حسين فضل الله عام ١٩٨٧.
(10) إذاعة تابعة لحزب الله، تأسست عام ١٩٨٨.
(11) «فلسطين القضية» من إعداد وتقديم ميساء شديد، «المرصاد» من إعداد وتقديم ابتسام الشامي.
(12) لا شكّ في أنّ إدارة برنامج كهذا على الهواء ليست بالمهمّة السهلة. لذا، ربما تساهلت المقدِّمة مع بعض الأهل الذين يتدخّلون لإعطاء الجمل بدل ترك المبادرة لأولادهم، فنسمعهم يهمسون لهم بالإجابة. ربّما وجبَ التركيز على مشاركة الأولاد بنحو مستقلّ وثني الأهل عن التدخّل، وإلا فقد البرنامج فرادته!
(13) أشير أيضاً إلى برنامج «من الصحافة العالمية» التي كانت تقدّمه هذه الإعلامية، وهو على حدّ علمنا الوحيد من نوعه على الإذاعات اللبنانية، وكانت تتميّز هنا أيضاً بقدرتها على تقديم واضح وذكيّ لأهمّ المقالات الأميركية والأوروبية الصادرة في الأسبوع المنصرم. فلماذا غاب هذا البرنامج المهمّ؟
(14) تقدّم بثينة علّيق برنامج «السياسة اليوم» على «إذاعة النور»، من التاسعة والنصف صباحاً حتّى الحادية عشرة، كل أيام الأسبوع. وإذا كان لنا من تمنٍّ على الإعلامية، فهو أن يُطبَّق منهاج «سانتيز» الحوار على تقديم الصحف: أي صوغ قراءة المقالات وفق موضوعاتها، وتفنيد نقاط التشابه والتمايز في المقالات المختلفة المخصصة للموضوع نفسه، وعدم الاكتفاء بقراءة العناوين كما يفعل سائر الإذاعات والتلفزيونات.