تعود معظم الأبنية المهجورة في بيروت إلى زمن الحرب الأهلية. بعضها أوقفت الحرب اكتمال بنائها مثل برج المرّ، أو أغلقتها بعد وقت قصير من افتتاحها مثل فندق «الهوليدي إن»، وغيرها تشظّت أو دمّر جزء منها أو حتى دمّرت كليّاً. بقاء بعض تلك الأبنية صامدة حتى اليوم، وموزّعة ضمن نسيج إعادة إعمار المدينة بعد الحرب، جعلها شهيرة ونافرة ضمن المنظر العام، ومثقلة بتاريخ وروايات الحرب. لكن اليوم بعد مرور ٢٥ عاماً على انتهاء الحرب، يسود انطباع عام متناقض عند البيروتيين.
لا يمكن للبيروتيين تخيل مدينتهم من دون: برج المرّ، والهوليدي إن، وبيضة السيتي سنتر، والسان جورج... وينظرون إلى تلك المباني وغيرها كجزء أساسيّ من هويّة المدينة، لكنهم في الوقت ذاته غير قادرين على التفاعل مع تلك المباني ومع تلك الهويّة في الحاضر، بل هي بالنسبة إليهم أيقونات مجمّدة في الماضي. وهنا تكمن أهميّة مشروع رأفت مجذوب «ألو، شايفني؟» الذي ينتشل تلك الأبنية من ماضيها، ويمنحها صوتاً تخاطب عبره سكان المدينة، والمباني المجاورة لها، في الحاضر. منذ 25 عاماً، لم يصعد قناص إلى طوابق «الهوليدي إن» أو برج المرّ. وخلال تلك السنوات التي مرّت، تغيّرت المدينة ومحيط تلك الأبنيّة، فلماذا ما زلنا لا نستطيع رؤية برج المر أو «الهوليدي إن» من دون ذلك القناص؟ لأننا ببساطة لم نحاول أن نرى تلك الأبنية في الحاضر، وما زلنا مصرّين على تجميدها في الماضي.
في عرضه التفاعليّ «ألو، شايفني؟»، يستند رأفت مجذوب إلى نظرّية «ماذا لو ؟». إن كنّا غير قادرين على التفاعل مع تلك الأبنية في حاضرها، ماذا لو كانت هي قادرة على ذلك؟ ماذا لو كانت تلك الأبنية قادرة على الكلام؟ ما الذي كانت ستقوله لسكان تلك المدينة عن اليوم، وليس عن زمن ولّى؟ يؤمن مجذوب بأن للأبنيّة دوراً أساسياً وفعّالاً في تكوين هويّة المدينة، وهويّة سكّانها. وبالتالي، فعدم قدرتنا كبيروتيين على التفاعل مع بعض الأبنية المهجورة على أنها جزء من حاضرنا، يشكّل أزمة في قدرتنا على تحديد هويتنا.
من جهة أخرى، يختار مجذوب الشارع ــ فضاء عاماً وملكاً لجميع سكان بيروت ــ كنقطة انطلاق للذبذبة على تلك الأبنية المهجورة التي هي أملاك الخاصة، ومحاولة لاستعادتها ضمن الحيز العام. اليوم، ومثل أيّ شاحنة خضار تجوب المدينة، ستمرّ شاحنة مزوّدة بشاشة L.E.D. يستخدمها البائع لتسويق الخضار. لكن في كلّ مرّة تتوقف فيها الشاحنة أمام مبنى مهجور، ستستغل تلك المباني الفرصة للتكلم مع المدينة وسكانها عبر شاشة الـ L.E.D.

تنطلق الشاحنة صباح اليوم من محطة شارل الحلو لتنهي مسارها مساء أمام «قصر داهش» في سبيرز


تنطلق الشاحنة اليوم عند الساعة الحادية عشرة صباحاً من محطة شارل الحلو، لتتوقف لاحقاً أمام كل من: بيضة «السيتي سنتر»، برج المرّ، «الهوليدي إن»، «السان جورج»، منطقة الفنادق في عين المريسة، الروشة، ثمّ تتجه إلى شارع الحمرا لتتوقف أمام مسرح «الكوليزيه»، شركة «التابلاين»، «مسرح الحمرا»، و«مسرح البيكاديللي»، لتنهي مسارها حوالى الساعة السادسة مساءً في المحطة الأخيرة أمام «قصر داهش» في منطقة سبيرز. أمام كل مبنى، ستتوقف الشاحنة لمدّة تراوح بين ١٥ و٣٠ دقيقة، لتفسح مجالاً لكلّ مبنى لقول ما عنده، ثمّ الإجابة على أسئلة الناس. النقل المباشر بالفيديو على الموقع الإلكتروني الخاص بالمشروع، سيخوّل أيّاً كان وحيثما وجد بالتفاعل وطرح أسئلته على تلك المباني خلال مدّة العرض. كما يمكن للجمهور متابعة العرض والتفاعل معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذا ما يجعل «ألو، شايفني؟» عرضاً تفاعلياً بامتياز، فاسحاً المجال أمام المارة للتفاعل معه، ومسخّراً خدمات وسائل التواصل لتأمين مجال أوسع للتفاعل. ولتعميق ذلك الاختبار، اختار مجذوب لكلّ من البنايات شخصيّة تناسب شكلها أو موقعها أو حتى انطباعه الشخصيّ عنها: برجّ المرّ مراهقاً ساذجاً يغار من «الهوليدي إن». الأخير واثق بذاته ويخال ذاته تلّة من التلال الثلاث المؤلفة لبيروت: تلة الأشرفيّة، تلّة راس بيروت، وتلّة «الهوليدي إن». وإن كان حلم «السان جورج» أن ينفصل عن بيروت ويصبح جزيرة، فإن «مسرح الكوليزي» سوف يقدّم، وأخيراً، الحفلة المرتقبة لمحمد منير.
«ألو، شايفني؟» مشروع فنيّ مدعوم من «المورد الثقافي»، سيقتحم اليوم شوارع بيروت، منتظراً تفاعل الجمهور معه: أسئلته، وتعليقاته، وستكون له تتمة في كتيب قرر الفنان نشره لاحقاً متضمناً مونولوجات الأبنيّة المهجورة، وما ستؤول إليه التفاعلات من نتيجة. وسينضم «ألو، شايفني؟» إلى سلسلة من المشاريع والاختبارات الفنيّة التي يجريها مجذوب ضمن آليّة كتابة روايته الطويلة «الروض العاطر». تلك المشاريع تشكل لمجذوب اختبارات حيّة تنتج مواد يعيد صياغتها في كتابة «الروض العاطر»، سيرة ذاتيّة لعالم عربيّ آخر. من ضمن تلك المشاريع، قدّم مجذوب العام الفائت «مال عام» نافورة في شارع الحمرا على شكل متسوّلة تحوّل المال المرميّ في حضنها إلى مال عام. كما قدّم في بيروت وعمان وشتوتغارت محاضرة وتجهيزاً فنيّاً بعنوان The Author is Insane (المؤلف مجنون). مباني بيروت المهجورة تتكلم اليوم، فهل تسمعها؟ هل لديك ما تقوله لها؟ إنه ليس حوار مع الحجر، بل حوار بين مكونات تلك المدينة، حوار عن الماضي والحاضر والمستقبل، حوار عن الهويّة.