دمشق | كأن ممدوح عدوان (23 نوفمبر 1941 ـــــ 19 ديسمبر 2004)، أراد أن يرتّب المائدة قبل رحيله بوليمة دسمة تليق بما كان ينتظرنا من أهوال. لم تكن وليمته الأخيرة شعراً، كما هو متوقع. كتاب من طراز فريد على هيئة معجم للتوحّش البشري، بدا كما لو أنه تتمة لكتابٍ آخر سبق أن ترجمه بعنوان «التعذيب عبر العصور» (بيرمهاردت ج هروود).
لكنه هنا فتح الفرجار على اتساعه راسماً خريطة كونية لدرجات الانحطاط التي بلغتها البشرية، مستنجداً برفوف مكتبة كاملة في توصيف الخزي والعار والوحشية التي دمغت الإنسانية في حقبها المتعاقبة، فلم يجد عنواناً أكثر دقة لوليمته من «حيونة الإنسان» (2004). ولكن هل كان صاحب «أمي تفتّش عن قاتلها» ينظر في مرآة سريّة لما سيحدث بعد أعوامٍ قليلة من فتك وانتهاك وتعذيب وذبح وطغيان؟ نقرأ فصول الكتاب، كأنّ الرجل لم يرحل قبل حدوث المجزرة العمومية، فهو لم يهمل تفصيلاً مهما قلّ شأنه في توصيف مذبحة الجنس البشري اليوم. لكننا في قراءتنا الأولى، رغم حالة الفزع التي انتابتنا حينذاك، تعاملنا مع فصول الكتاب بوصفها وثائق وشهادات عن العنف لا تخصّنا مباشرة، أو أنها لن تتكرّر بالوحشية نفسها. هكذا يبدأ ترويض الكائن البشري تدريجاً، عن طريق الاعتياد إلى أن تكتمل ملامح الوحش في المرآة. يقتبس ممدوح عدوان حواراً من روايته «أعدائي»، كعتبة أولى لبداية احتضار طبائع البشر «تصوّر حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كل ما يجري حولنا؟». ثم يلتفت إلى قصة «العسكري الأسود» ليوسف إدريس وكيفية تحوّل الجلّاد بعد انتهاء خدمته إلى وحش مريض: «إنه يصرخ ويسخر ويبصق ولا يتكلم، إنه ينبح». ثم يشير إلى يوميات الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي في السجن وكيفية «تخريب مقومات الرغبة في العيش، وتعطيل الحواس».
صناعة الوحش، وفقاً لتسلسل معجم العنف تطوّرت على مراحل، منذ أن انزلقت الألعاب في الإمبراطورية الرومانية من التسلية نحو العنف كفرجة شعبيّة، مروراً بالخازوق العثماني في تعذيب الضحايا، وصولاً إلى أبشع أنواع المجرمين، أولئك الذين «يحفرون المقابر ويعبثون بالجثث». لا ترمي الحالات التوثيقية والتخييلية التي يزخر بها الكتاب، إلى توصيف المشهد المعلن للكرامة البشرية المهدورة، وإنما تعزيز المشهد الذي يعتمل داخل نفسية الضحيّة، أو «ورطة الإنسان الأعزل»، وتبادل الأدوار مع الجلّاد في ثنائية «القامع والمقموع». وإذا بنا حيال فاتورة ضخمة من الخسائر، فكلما خسرنا إنسانيتنا، ازداد الوحش داخلنا «حيونةً». ذلك أن السلطة القمعية تعمل بدأب على «تحوين» البشر بإيقاظ ما هو غريزي على حساب آدميتهم.

القمع السلطوي طريقة
للردع والمنع، بالشراكة مع الخطاب الديني

كان سارتر قد أشار إلى كيفية تحويل الإنسان إلى بهيمة عبر ترويضه. هنا يستدعي صاحب «ليل العبيد» عشرات الأمثلة عن طرائق التعذيب والإذلال والقسوة، ثم إعادة إنتاجها في أفلام العنف كنوع من «ثأر الدماء» حسب توصيف إيريك فروم، وتالياً تغيير وتشويه هوية المعذَّب من متمرّد إلى خانع وصولاً إلى الطاعة «فئران وأرانب من جهة، وذئاب شرهة للدم». على الضفة الأخرى، تلك هي الوصفة الناجحة في الأنظمة القمعيّة لصناعة «المتنمّر» أو «المتسلبط»، أو «البلطجي» أو «الشبّيح»، واستخدامه في إخافة الضحية بالقوة أو بالتسلبط العائلي أو العشائري أو السلطوي. وهناك أيضاً التسلبط الوظيفي، وكل هؤلاء ينحدرون اجتماعياً من «أسفل السافلين» وفقاً لتوصيف عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد»، لذلك فهم «سلطة متنقّلة بقوانينها الخاصة التي يفرضها مزاج اللحظة». بتعميم هذا النموذج على مفاصل الحياة، تجد الضحية نفسها في أقصى حالات الخنوع والخوف، «فحين يحكم السيف تضيع الكرامة»، وتكتمل عناصر «مجتمع المقموعين» في تسلسل هرمي، يُنتج - في نهاية المطاف- دكتاتوريات متناسلة، سواء أكان في المحيط العائلي الضيّق أم في مراتب السلطة. ذلك أن مجتمع المقموعين هو مجتمع مهزوم ينتهي باللجوء إلى عشيرته أو طائفته طلباً للحماية، رغم مظاهر التقيّة في سلوكه اليومي المعلن نحو الآخر المختلف. وإذا بالشعارات المرفوعة حول المجد والسؤدد والكرامة والحرية مجرد ترجمة لاضمحلال الإنسانية وانحدارها نحو الحيوانية، فالقمع السلطوي لم يعد وسيلة للعقاب بقدر ما هو طريقة للردع والمنع، بالشراكة مع الخطاب الديني باعتباره آلة أسطورية للإخضاع. لا طاغية بدون حاشية. هذا ما يخلص إليه ممدوح عدوان في محطته الأخيرة، حاشداً شهادات جديدة في معنى الاحتضار البشري. ولكن ماذا لو أنه أجّل موته قليلاً كي يشهد المذبحة المتنقّلة اليوم؟