كما في معرضها السابق «الجنة في مكان آخر» (2013) الذي احتضنته «غاليري ألوان»، تستمر هدى بعلبكي (1968) في معرضها الجديد في الغاليري ذاتها برسم لوحات تحتفي بالمعنى الفردوسي لفكرة الطبيعة والوجود الإنساني، وهي الفكرة التي تضيق مساحاتها في المدينة المعاصرة والحياة الحديثة، وتكاد تفقد حتى عزلتها ومناطقها البكر في الطبيعة الفطرية أيضاً. الخلاءات الطبيعية والريفية التي احتلت أغلب لوحات معرضها السابق، تحضر من جديد، ولكن مخترقة بوجوه بشرية تمنح بعض التشخيص الخافت إلى تجريدات المنظر الطبيعي المفتوحة على تفاصيل وجزئيات وأضواء وظلال من الطبيعة ذاتها. الوجوه حاضرة بالمزاج نفسه الذي تحضر به الأشجار والأحراش والتراب المبقّع بالأوراق والتلال المضاءة بتدرجات الظل والنور. هناك سكينة تتمدد بين هذه العناصر والمرئيات، وتصنع نوعاً من المرايا المتقابلة فيما بينها. الصمت هو ما يرشح من انعكاس كل ذلك في اللوحات.
تحتفي بالمعنى الفردوسي لفكرة الطبيعة والوجود الإنساني

الرسامة اللبنانية التي بدأت بتجريدات فيها تنوع تعبيري أكثر، واحتفظت في الوقت نفسه بتعبيرات الصمت ومناخاته المنعزلة، لا يبدو أنها ابتعدت كثيراً عن مناخ البدايات تلك. صحيح أن لوحاتها باتت احترافية أكثر، ولكن هذه اللوحات تفتقر أحياناً إلى القلق، قلق الفنان أمام منجزه الشخصي. هناك نوع من التصالح مع اللوحة. تصالحٌ يقلل حجم التحديات التي تواجهها الرسامة اثناء العمل. التحديات تكاد تقتصر على مسائل تقنية أو خلطات ألوان أو تنقيحات لونية هنا وهناك. لا يقلل هذا الانطباع من جماليات عديدة تبثها اللوحات الـ 61 المعروضة. جماليات تأخذ من ألوان الطبيعة في فصولها المتعددة، ومن أطروحات إنسانية بسيطة مثل الصمت والانتظار والجلوس. هناك لوحات تحمل عناوين توضيحية ومباشرة لهذه المناخات، كما في «نحنا والقمر جيران»، «الباروك»، «منازل جديدة على التلال»، «جلوس وانتظار»، «الفصول الأربعة». هي جماليات محلية، ريفية وجبلية، لا تزال قادرة على خلق اشراقات لونية مُعدية، وخلاصات خافتة عن العزلة والخشوع، ودلائل على مهارة عمل الطبيعة في إنجاز هذه الجماليات التي تقول الفنانة في تقديمها للمعرض إنها معرّضة للقضم والاعتداء والتضاؤل أمام التمدد العمراني والبشري. إنها جماليات تتوثق في اللوحة، وتُضاف إليها أمزجة البشر ورغباتهم وتعاقب أيامهم. هناك ضوء كثير في المشهد الطبيعي، وعناية فائقة في تأليف اللوحة، وبراعة في اختيار عائلة ألوان متجانسة وذائبة في ابتكار انطباع قوي وموحّد، ولكن هذا كله يقع أحياناً في فخ التزويق والزخرفة المجانية الذي يُحسب عادة على فكرة تسويق اللوحة وليس على قوتها التعبيرية وعلى النديّة التي تواجهها الرسامة نفسها في إنجازها. ولعل ذلك يظهر أكثر حين يُلقي زائر المعرض نظرة بانورامية على الأعمال المعروضة، فينتابه شعور بأنه يرى عملاً واحداً تقريباً، وأن الأعمال نفسها تحتوي على مهارات مقنعة في اللون والرسم والتأليف، ولكنها في الوقت نفسه، تفتقر إلى مغامرة أو مخاطرة غير محسوبة مسبقاً. مخاطرة تنفي عن اللوحات فكرة أنها تتعجل في مخاطبة أذواق معينة يمكنها أن تُعجب بها وتقتنيها أيضاً.

* حتى 14 نيسان الحالي. «غاليري ألوان»، الصيفي فيليدج. للاستعلام: 01/975250