منذ أيام ومع مطلع الشهر الحالي، استضافت عبّادان في محافظة الأهواز العربية في إيران، المهرجان الدولي السادس لقصيدة النثر العربية. ولعل أهم ما قدمه مهرجان «الفجر والسلام» الذي امتدّ لثلاثة أيام متتالية وعقدت على هامش أمسياته جلسات نقدية بين المشاركين شعراء ونقاداً، ذلك التواصل التكاملي والانفتاح الفكري والأدبي بين حضارتين، والمقارنة بين واقع القصيدة النثرية العربية المحضة ونظيرتها الأهوازية وليدة المجتمع المتنوع قومياً بين العرب والفرس.
فعلى ما يبدو أنّ القصيدة النثرية وفي نهاية المطاف، قد انتصرت هناك، أو على أقل تقدير تخطّت النقاشات السفسطائية والجدالات البيزنطية التي ما زالت تدور من دون جدوى، وتتكرّر في مجالس المستشعرين الذين يجترّون على الأغلب ما انتزعه شعراء الحداثة. فأي كلام على تسمية القصيدة النثرية (النثرية، القصيدة المنثورة، النص التهجيني..) أو على إشكالياتها المتعددة، بات تكراراً ببغائياً لمنجزات استطاع روّادها منذ خمسينيات القرن المنصرم، وبكثير من العناد والصبر والشراسة أحياناً، تحقيقها وانتزاع الاعتراف بها على المستوى النخبوي على الأقل... لم تعد آراء أدونيس ولا جرأة الماغوط (الصورة) وفنية أنسي الحاج وحدها موضوع الجلسات النقدية وغيرها... القصيدة هناك في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة بما تملك من دلالات تاريخية وحضارية، تخطّت عهد الحداثة الشعري، وتمارس قناعاتها ــ ما بعد الحداثوية ــ في بناء القصيدة وتركيبها الفنيّ والنفسي، مستفيدة بطبيعة الحال مما أرخاه التأثر بالشعر الفارسي الحديث، من ظلالٍ وتعامل صارمٍ وجاد في تقنيات الإيجاز والتكثيف واتقان لعبة الادهاش أو لنقل ــ وكما يحبون أن يسمّوها ــ الوقف الخبيث في نهاية النص الشعري.
الشاعر الأهوازيّ إذا يقدم في كل نصٍّ رؤيا/ رؤية جديدة حادة ومفتوحة، ينطلق من معاناته الوجودية، اليومية، اللغوية متمّرداً على واقعه، فمعركته كانت من دون شك مضاعفة: معركة هوية وجودية يحاول جاهداً الحفاظ عليها، متكئاً في ذلك على أكثر الأجناس الأدبية جرأة وتمرّداً. يسكبها برغم ما فيه من توتر، عميقة ذات قرارٍ موغل وعين استشرافية مفتوحة لا تكاد ترمش. ومعركة أخرى يبدو أنّه ربحها أو في أقل تقدير في طريقه لكسبها. فقد انتزع الاعتراف الجماهيري بشرعية هذا الجنس الأدبي، إذ ورغم قرب الأهوازيين واندماجهم بالمجتمع الفارسي، إلا أن السمات النفسية العربية وما فيها من انفعال وميل إلى الإيقاع الموسيقي الرتيب والمدروس، وما تتميز به من انشغال بالعاطفة المفرطة، ما زالت تهيمن.
إذاً، استطاعت القصيدة النثرية في الأهواز أن تتصالح مع الجمهور وتروّض ذائقته إلى حد بعيد، وهذا ما لم تنجح به حتى الآن القصيدة النثرية العربية.
انطلاقًا ممّا تقدّم، يبدو أن هذا التهجين، إن كان لنا أن نستخدم هذا المصطلح، ما بين عمق وغنى وجرأة وفنية التجربة العربية، وبين تطوّر القصيدة الفارسية وبنائها المصقول والمدروس، بدأ يعطي أُكله، يضاف إلى ما تقدم رغبة عميقة في الانجاز وإحداث الفارق وكسر النمطي توافرت وتتوافر عند المنظمين لهذا المهرجان الدولي السنوي، مع إخلاص شديد ينظمه عمل تعاوني جماعي دقيق، ساهم في إنجاح هذا المهرجان في دورته السادسة للآن، بشكل لافت ومبشّر يشي بسنين خصبة آتية وأيام ستتداولها قصيدة النثر ذهبية. بإمكانات مادية متواضعة ونفوس غنية ورعاية رسمية لدائرة الثقافة والإرشاد الإسلامي في منطقة أروند الحرة، استضافت مدينة عبّادان خمس دول (لبنان، وعُمان، وسوريا، وتونس، والعراق)، وفتحت من خلال مهرجانها الدولي الباب واسعاً أمام إشكاليات ما بعد الحداثة، مفسحة المجال للتلاقح الحضاري كما يجب أن يكون...
فهل تنجح عبّادان في ما تصبو إليه، من حمل لواء قصيدة النثر وما تمثله من تمرّد وحرية مستكملة ما بدأه العرب منذ نيف من الزمن، أم تقع في فخ القوننة والقولبة؟ ففي نهاية المطاف لنا أن نخشى، فثورة اليوم قد تصبح بعد جيل موروثاً مُهاب الجانب وتعود كرّة الصراع لنقطة البدء!