ربما، لا يحتاج سلطان سعود القاسمي فعلاً إلى كبير تعريف، كما قال البروفسور توبي دودج مقدم المحاضرة في «كلية لندن للاقتصاد» الأسبوع الماضي. هو جامع لوحات متخصص وكاتب صحافي معروف، وأحد أهم المعلقين على تويتر كصوت عربي، وإن كان تغريده بالإنكليزية دائماً. لكن التعريف كان مستحقاً بالتأكيد لعلاقة الفن بالسياسة في العالم العربي. علاقة تبدو كأنها شديدة الغموض أقله بالنسبة إلى غير المتخصصين. القاسمي، ابن الشارقة، عاصمة الثقافة في دولة الإمارات، قدّم في زمن حدِّد بـ ٤٥ دقيقة، أشمل تغطية ممكنة للعلاقة الشديدة التشابك بين الفن والسياسة في العالم العربي في الندوة، عارضاً مجموعة مدهشة من الأعمال التشكيلية والمنحوتات منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى اليوم، متنقلاً بجمهوره من مانيفستو الـ ١٩٣٨ لـ«جماعة الفن والحريّة» المصريّة التي دعت إلى مواجهة الظلام الذي تسرب الى عمق أوروبا في وقت صعود القوميّات المتطرفة، وانتهاء بمنحوتة منى حاطوم الأيقونة النبوءة «اللانهاية»، حيث حروب الجنود الصغار في العالم العربي محكومة بالأبدية وتسكن كل البيوت، مروراً بكل الأحداث المفصلية الكبرى التي رافقت قيام الجمهوريات الوطنية في العراق ومصر والجزائر، وكذلك سقوط فلسطين.
سُجن الرائد المصري عبد الهادي الجزّار بسبب لوحته «الجوع» (١٩٤٨)

القاسمي الذي يمتلك شخصياً من خلال «مؤسسة بارجيل للفنون» في الشارقة، أكبر مجموعة عربيّة على الإطلاق من الأعمال التشكيلية الفائقة الأهميّة، أراد برسالته القول إنّ الفن في العالم العربي حيّ وجزء لا يتجزأ من الحراك السياسي والاجتماعي، وصورة شديدة الحساسيّة عن تحولات الأزمنة فيه منذ البداية وحتى اليوم. وقد وُظّف من قبل المعارضين للتعبير عن رفضهم ومقاومتهم لأشكال الاستبداد السياسي والاجتماعي المختلفة، وإن تمظهر أحياناً كأداة توجيه ايديولوجي في خدمة قوة الدولة الناعمة، وإدعاءاتها الكبرى، بل وربما كخادم أمين للعائلات المالكة وسلالات الحكم.
من لوحة «الجوع» (١٩٤٨) للرائد المصري عبد الهادي الجزّار (1925 ـــ 1966) التي سجن بسببها بعدما أهدى الملك صورة لشعبه تتقدمه صحونهم الفارغة، إلى لوحة «ملحمة الشهيد» (١٩٦٥) للعراقي كاظم حيدر (1932 ـــ 1985) التي بكت مقتل أول رئيس للجمهوريّة في العراق من خلال محاكاة مأساة مقتل الإمام الحسين، فـ«نصب الحريّة» في بغداد (١٩٥٩) لجواد سليم، وأعمال إنجي أفلاطون المعارضة لدولة عبد الناصر (بنت مصرية خلف القضبان ــ ١٩٥٣)، إلى «ثلاثة أطفال فلسطينيين» (١٩٧٠) رسمهم مروان قصاب باشي كعمالقة تشخص الأبصار عالياً لتراهم، و«الكتب المتحجرة» (٢٠١٠) لمحسن الحراكي، التي كشفت عن عمق تخلفنا الذي جعل من نصوصنا الأساسية كتباً حجرية تنتمي إلى عصور غابرة، ولوحة الغرافيتي ذائعة الصيت «طنطاوي هو مبارك» التي أصبحت أيقونة مرحلة انتفاضة «25 يناير» المصريّة... بدا الفن العربي في مراحله المختلفة وبأشكاله كلّها قادراً على الخروج من نخبويته، ليدوي صرخة عالية في وجه الظلام والظلم متصدياً للتخلّف والاستبداد، ومتحولاً منشوراً ثورياً بامتياز.
ما قدّمه القاسمي لجمهوره اللندني، شابه رحلة شديدة التشويق الى لحظات موغلة في كثافتها لحيوات شعوب العالم العربي، لخّصت بطرائق تنوعت بين الريشة والإزميل والألوان، مشاعر كتل هائلة تريد استكشاف ذاتها، وتعريف وجودها نفسه في عوالم من الصراعات التي يبدو أن لا أفق لنهايتها في هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وهم بذلك يكملون تراث أسلافهم في مصر، والعراق، وسوريا القديمة الذين تركوا في أعمالهم الأثريّة الخالدة مشاعر ما زلنا قادرين على معايشتها بعد مرور آلاف السنين.
العرض الذي قدّمه القاسمي يشكّل نقطة انطلاق هامة لكل محاولة فهم جادة للتاريخ الحديث في العالم العربي، ذاهباً في تأكيده على أساسيّة الفن كدليل لتتبع أبعاد الأحداث السياسية على مزاجات وأفكار وانطباعات الناس الذين يعيشون تلك الأحداث... زاوية غالباً ما أغفلت في معظم ما كتب عن المنطقة.