ثمة مشاهد «عادية»، أو تصير عادية، في ضاحية بيروت الجنوبية، خلال فترة عاشوراء. مثال على ذلك صبية متشحة بالسواد تلف حول رقبتها شالاً أخضر. والأخضر لون دارج اليوم، وشائع أنه لون عمامات الأئمة الشيعة. على زاوية الشارع، قد تجد عربة تشغّل «ندبيةً» بصوتٍ عالٍ، فيما يقوم صاحبها ببيع اكسسوارات خاصة بالذكرى. وقد تمر سيارة مسرعة في الشارع تصدح مكبراتها الصوتية «يا عباس». سألنا البائع، فأجاب مبتسماً: «نحن الآن في موسم». وليس هو وحده من يصطاد الفرصة الرأسمالية في الحدث الديني. كذلك تفعل المحال التجارية، فترتفع أسعار الملابس السوداء، وتتشح الواجهات بالسواد، حتى في محال اللانجري. وهذا ما قد يثير حفيظة بعضهم، لكن القصد هو العرض، بعد معاينة حقيقية، لا الإساءة إطلاقاً. مشاهد أخرى ستبدو مألوفة أيضاً: إطلاق اللحى، واستبدال الموسيقى والأغنيات باللطميات، والامتناع عن تناول البزورات والعلكة، والتخفيف من الضحك والمزاح، بما في ذلك... على وسائل التواصل الاجتماعي. غالباً، تتوقف النسوة عن نمص الحواجب أو قص الشعر. وفي موازاة ذلك، تنشط «سوقٌ» واسعة ومربحة قوامها حملات الزيارة للعتبات المقدسة في العراق، أرض استشهاد الحسين وأهله. وفي عاشوراء أيضاً، إمكانية لدراسة المشهد الطبقي وتفاوته بين المحتفين. على سبيل المثال، النظر إلى الولائم العامرة التي قد يقيمها ميسورون «على حب الحسين»، أو في مراقبة «ديكور» المجالس الحسينية وزائريها، بين المجلس الشعبي المركزي الذي يقيمه «حزب الله» ويتحدث فيه الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، والمجالس «النخبوية» الأخرى، التي قد تقام في المصيلح. كل ذلك، لا يخفي العادات الإثنوغرافية المتاحة للجميع.
الشالات والقمصان واللطميات الجديدة هي إضافات رأسمالية
الهريسة. الاسم مألوف عند اللبنانيين، حتى الذين ليسوا معنيين بعاشوراء من الناحية الدينية. هي طقسٌ من طقوس عاشوراء، درج الشيعة على إعدادها في بلاد الشام، وهي عبارة عن طبق بسيط قوامه القمح واللحم أو الدجاج، يُوزّع على الفقراء والمارّة. يُروى أن تاريخها يعود إلى عام 61 للهجرة، حين وقعت حادثة السبي إلى الشام، وكانت السيدة زينب، أخت الإمام الحسين، تجمع الحبوب الموجودة في المكان الذي احتُجِزوا فيه وتُعدّ من هذه الحبوب طعاماً تسدّ به رمق الأطفال. في روايةٍ أخرى، يُقال إن أصول إعداد الهريسة تعود إلى الأنباط، وهم سكان جنوب العراق الذين يتحدثون الآرامية وسريان سوريا. في البدء، توقد النار في الحطب تحت قدور نحاسية كبيرة، ويتجمع شبان الحي حولها. الهريسة تحتاج إلى وقتٍ طويل لطهوها، ومن ثم يتناوبون على هرسها بملاعق خشبية كبيرة، بينما تقوم النسوة بسلق الدجاج وإعداد التوابل اللازمة والإشراف على العمل. هناك أيضاً «كعك العباس»، و«الراحة والبسكوت» اللذان أصبحا من المطبخ العاشورائي عبر تقادم المواسم. يتزايد الطلب على مكوناتهما كالطحين والسمن، وقد تزداد أسعار هذه السلع في هذه الفترة. هذا في الأيام التسعة الأولى. لكن يختلف اليوم العاشر في ضاحية بيروت الجنوبية عن باقي أيام السنة. تبدأ تلاوة «المصرع الحسيني»، في الساعة السابعة صباحاً، حيث تُسرد الرواية الكاملة لمصرع الحسين ورفاقه وسبي نسائه وأطفاله، بشجنٍ وأسى. يدفع السرد الحاضرين إلى النحيب والبكاء واللطم على الوجوه والصدور، وأحياناً يصاب بعضهم بحالات إغماء، وتنتهي التلاوة حوالى الساعة التاسعة، لتنطلق من بعدها المسيرة العاشورائية في شوارع الضاحية. تتقدّم المسيرة أفواج منظمة من الكشافة، ثم تتخللها صفوف «اللاطمين»، والعازفون المتشابهون. ترتفع الأكف عاليةً، وتنزل لتدق الصدور متناغمةً مع موسيقى اللطم. يتقاطع المشهد الحالي مع دراسات أجريت عن عاشوراء اللبنانية؛ فثمة فوارق حزبية في تنظيم المسيرتين، بين «حزب الله» وحركة «أمل». لا تطبير في مسيرات «حزب الله»، على عكس مسيرات «أمل»، بينما يسري اعتقاد شعبي خاطئ بأنّ «حزب الله» يسمح بالتطبير. والحال أنّ الدولة، في الحالتين، لا تتدخل في إحياء المراسم، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا يدل على ضعف ثقة المشاركين بالدولة، على حساب ثقتهم بالجماعة. وبشكلٍ عام، هذا ليس موقفاً سياسياً رثاً، بل مفهوم في المناسبات الدينية التي تقوم على تعاضد أفراد الجماعة.
من وجهة نظر علمية، يمكن القول إن المبالغة في الشعائر العاشورائية كانت سابقاً محاولة لضمان تناقل الرواية واستمراريتها عبر العصور، كردّ فعل على محاولة طمسها من قِبل الأمويين. هذه محاولة تاريخية لقراءة المبالغة. لكن الشعور الشيعي بالمظلومية، وطريقة تظهير هذا الشعور يحتاجان إلى بحثٍ طويل، لا يمكن عرضه في مقالٍ أو مقالين، أو حتى في ملف. وقطعاً، فإن الشالات والقمصان واللطميات الجديدة، هي إضافات رأسمالية، لا يمكن غض النظر عنها، لأنها بهذا المعنى قابلة للتفاقم، ولنهش الأبعاد الإنسانية للذكرى. الحفاظ على القيمة الأنتروبولوجية لعاشوراء أمر مثير للإعجاب، لكن ينبغي الإشارة دائماً إلى ضرورة حماية عاشوراء من الأبعاد الرأسمالية، ومن خطر استخدامها من قبل متطرفين للتحريض على الفتنة والتطرف، عبر استغلال لُحمة الجماعة، وقيادتها إلى العنف العصابي، الذي يخرج عاشوراء نفسها من قيمتها التاريخية الأسمى: الفداء.