لا أوقح من صفحة على فايسبوك بعنوان: «آثار للبيع من سوريا». صور رديئة تُظهر تشكيلة واسعة من الحلي، والعملات الرومانية والإسلامية، والأساور، والخزفيات، والقطع المعدنية، والتماثيل الصغيرة. هناك إنجيل بالسريانية و«رأس زنوبيا» أيضاً. رغم أنّه لا يمكن التأكّد من أصالة كل «البضاعة»، إلا أنّ أصحاب الصفحة التي أُغلقت حالياً تعاملوا مع الأمر بصفاقة مدهشة. طوفان التذمّر والشتائم على الـ«تايم لايم»، لم يعنِهم بشيء. أسلوبهم كان بسيطاً: «التواصل على الخاص. المصدر سوريا، والبيع في تركيا».
كانوا يجيبون باقتضاب على طلبات شراء محدّدة، سائلين أصحابها التراسل على الخاص (inbox). في أحد الردود، نقرأ عبارة مستفزة: «التدمري سوقو واقف». هكذا، تُباع آلاف السنين وفق نظام البسطات والبازار على الموقع الأزرق، وبالتأكيد عبر «إي باي»، موقع المزادات الأوّل على الإنترنت.
كم هو منتهك أيّ معنى في سوريا اليوم! المناجم الكبيرة معروفة في تدمر (قبل وبعد غزو «داعش») وريف إدلب. الاحتلال البربري لا يعرف معنى مواقع التراث العالمي ولوائح الأونيسكو. رغم الحديث الحكومي عن نقل مئات القطع المهمّة خارج تدمر، قبل سقوطها بيد عناصر التنظيم الإرهابي، تبقى هذه المدينة «مغارة علي بابا» بالنسبة لهؤلاء. الجدل السوري المخجل حول تفوّق أهمية البشر على الحجر (كأنّه حجر رصيف عمومي) أو العكس، يضاعف من هول الكارثة. نغمة المعارضة والموالاة في مصاب كهذا، نشاز آخر في السجل الأسود الذي صار مجلّدات ضخمة.
قليلون التفتوا إلى حفلة الإبادة الجماعية المقيمة كوحش أسطوري لا يُقهَر. تواتر ممنهج، ودقيق، وواعٍ، وحازم، في الإجهاز على ما تبقّى من هوية متراكمة الطبقات.
إذاً، لا مكان سوى للرايات السوداء في سماء الجوارح المتربّصة ببحر الجثث، التي كوّمتها الهجمة الظلامية بلا رحمة. دون كلل، تسهر جيوش الزومبي على تدشين «أرض العدم».
محلياً، لم تقدّم الحكومات السورية المتعاقبة نموذجاً باهراً في الاعتناء بآثار البلاد. لطالما كانت الأعمدة والقلاع مجرّد حمامات للعموم، ومراتع للسكارى، وزوايا للنفايات والأعشاب البريّة. في التوثيق البصري، لم تُبذل سوى بضعة جهود عشوائية، من أجل ساعات فيديو منوّمة على التلفزيون السوري (تصوير رديء، وتعليق خشبي يُقرأ بآلية). «المؤسسة العامة للسينما» حاولت محو ذلك، من خلال بعض الوثائقيات الجادة. يمكن ذكر «بصرى» (1983)، و«على دروب المدن المنسية» (2009) لغسان شميط، والتسجيلي الأفضل فنياً «نوافذ الروح» (2011) الذي أنتجته بالتعاون مع «المديرية العامة للآثار والمتاحف» ومؤسسة «جذور»، وأخرجه الليث حجو وعمّار العاني، عن سيناريو لعمر أبو سعدة.
هنا، يروي النجم جمال سليمان قصّة حضارات وشعوب وممالك تعاقبت على الجغرافيا الشاميّة. في مفارقة تاريخية، وجودية، عبثية، ما بعد حداثوية، نتذكّر الأخبار عن قيام متحف دولة عربية حديثة التأسيس، بإنفاق أكثر من نصف مليار دولار على شراء لوحتين فقط. كلمات مثل المحرقة، والتصحّر، والجذام، والتحلّل، تبدو رومانسيةً قياساً لما ينمو قرباً منّا في كلّ ثانية.