كان من عادات الملوك المنتصرين في العالم القديم أن يقوموا إما بمسح ذكر أولئك المهزومين، أو بتخليد هزيمتهم وإذلالهم إلى الأبد ليكتبوا بدورهم تاريخهم ويخلدوا إنجازاتهم عبر العصور. مع بروز عصر القوميات والنشاط الاستعماري وحركات الاستشراق وتوافد المستكشفين والمغامرين الأوروبيين، نشطت حركة البحث عن المدن القديمة التي كان يُعتقد أنها أسطورية كتلك الواردة في العهد القديم والملاحم الكلاسيكية كالإلياذة والأوديسة قبل أن تتكشف حقيقة وجود هذه المدن والممالك القديمة لتبدأ معها رحلة تهريب الآثار إلى المتاحف الأوروبية.
بدأت الدول القومية الحديثة الولادة وتلك المستقلة حديثاً بالتأكيد تدريجاً ــ ولاحقاً بسنّ القوانين وتطوير المناهج المدرسية ــ على أهمية التراث المادي كجزء أساسي من مكونات الهوية المتخيلة وكتعبير عن التراث والذاكرة والتاريخ المشترك الذي يجمع السكان الذي وجدوا أنفسهم ضمن حدود إدارية جديدة فرضتها القوى المنتصرة والواقع الدولي الجديد.
في إصداراتهم الدعائية المقروءة والمرئية (كإصدار ولاية نينوى المعنون: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر»)، يزعم دعاة ومنظّرو تنظيم «داعش» أنّ تحطيمهم للتماثيل والآثار هو استجابة لأمر إلهي واقتداءٌ بفعل النبيين ابراهيم ومحمد وصحابته من بعده «لأنها أصنام وأوثان لأقوامٍ في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله». تتجسد المفارقة الزمنية في سياق الدعاية الإيديولوجية للتنظيم بتصدّر مسلحين إسلاميين في القرن الحادي والعشرين لمشهد الصراع الدامي في سوريا والعراق وإضافة بُعدٍ آخر للحرب يتجاوز الصراع السياسي والطائفي المتصاعد، ويتمثّل في شنّ حربٍ عدمية على التاريخ والثقافات والتعددية ومخلفاتها التراثية والحضارية المادية التي شكلت إحدى أسس بناء الهويات الوطنية الحداثية في الماضي.
في سياق هذه الحرب، يعمل دعاة التنظيم على استيراد نصوص دينية وردت ضمن سياق القرن السابع الميلادي لمحاكمة الحضارات والأديان والثقافات السابقة للإسلام كافة، مستشهدين بالآية 25 من سورة الأنبياء: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] وأحاديث منسوبة للنبي محمد والصحابة لمحاكمة الأكاديين والآشوريين لعباداتهم آلهة عدة، بزعم أنّ رسلاً مفترضين وفق التفسير الحرفي للآية، قد دعوا هذه الشعوب إلى عبادة الله الواحد، في مشهدٍ عبثي أشبه بتداخل الأزمنة في ثقب أسود.
على رغم مزاعم التنظيم والرسالة الدعوية الظاهرية التي تهدف لاستقطاب جهاديين محتملين، بخاصة في صفوف المراهقين والشباب للمشاركة في «المعركة المقدسة» على خطى الأنبياء السابقين، إلا أنّ الهدف الأبعد أثراً يتجاوز المعنى الرمزي الكامن في قيام أولئك الأنبياء بتحطيم تماثيل الآلهة الرئيسية إعلاناً للقطيعة مع نظام العبادة القديم السائد آنذاك بوصفه السلطة الهرمية العليا التي تتمحور حولها مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واحتكار السلطة من قبل الديانة الجديدة التي تعمد إلى إعادة هيكلة النظام القديم. تنظيم «داعش» يحاكي إلى حدٍّ ما ممارسات بعض ملوك العالم القديم بإزالة كل أثر للملوك والشعوب التي هزموها لتنهال مطارقه وبلدوزراته على التماثيل والأضرحة والنقوش، وتفجر قنابله ومفخخاته صروحاً بكاملها في إعلانٍ لحرب لا هوادة فيها ليس على الماضي غير الإسلامي، بل على المستقبل. يمارس التنظيم عملية تدمير منهجية ومدروسة على ذاكرة وهوية أجيال ما بعد الحرب وتفتيت كل عناصر النظام القديم بالمعنى الأوسع الذي يتجاوز المؤسسات التي بُنيت في فترة الصعود القومي والنظامين الحاكمين في سوريا والعراق ليشمل عالم ما قبل الإسلام تاريخياً ومخلفات ما لا يعتبره التنظيم إسلامياً كمساجد الشيعة ومقامات الصوفيين والأضرحة والشواهد البارزة فوق سطح الأرض. وهنا يكمن أحد أخطر الإرهاصات المحتملة في أعقاب سيطرة التنظيم على مدينة تدمر التاريخية.

نموذج فريد لتلاقح الحضارت

جاءت سيطرة «داعش» على مدينة تدمر (20 أيار/ مايو الماضي) بعد أيام فقط من السيطرة على مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار العراقية على رغم الحملات الجوية التي تشنها قوات التحالف الدولي بين الحين والآخر على مواقع للتنظيم. إلا أنّ سقوط تدمر المفاجئ شكّل صدمة كبيرة للمتابعين لتطورات الصراع السوري مع تزايد المخاوف من قيام «داعش» بارتكاب مجزرة ثقافية جديدة إلى جانب التقارير اليومية حول ارتكاب مجازر بحق سكان المدينة والإعدامات الميدانية للمجندين والضباط الأسرى والموظفين في القطاعات الحكومية غير العسكرية.

يعتبر معبد «بل» من أهم المعابد في سوريا، كان مكرّساً للثالوث الإلهي الذي يضمّ الرب بل ويرحبول رب الشمس وعجليبول رب القمر

وكان التنظيم قد شنّ سابقاً هجمات عدة على مواقع ذات أهمية اقتصادية كحقل الشاعر كما سيطر قبل أيام من سقوط المدينة على حقلي الهيل والارك لإنتاج الغاز الواقعين بين تدمر وبلدة السخنة. إلا أنّ السيطرة الحالية على تدمر ذات الموقع الاستراتيجي، يفتح الطريق باتجاه شن هجمات باتجاه حمص وحماة والسلمية ودير الزور في حال تمكن التنظيم من تثبيت وجوده، خصوصاً بعد سقوط معبر التنف (الوليد من الجهة العراقية) وهو آخر معبر حدودي يربط بين سوريا والعراق. كما تشكل المدينة التي صنَّفتها الأونيسكو كموقع للتراث العالمي عام 1980، مصدراً اقتصادياً لا ينضب بالنسبة إلى التنظيم ولصوص الآثار والمافيات الدولية.
موقع المدينة في واحة وسط البادية السورية على تقاطع طرق التجارة القديمة، ومهارة التجار التدمريين في إعداد نظام للقوافل عبر الصحراء يربط مدينتهم بالمراكز الكبرى في بلاد ما بين النهرين عن طريق حوض الفرات من جهة، وحوض المتوسط من جهة ثانية... كلها عوامل لعبت دوراً بارزاً في تكريسها كأحد أهم المراكز الاقتصادية والثقافية في العالم القديم. شكلت المدينة نموذجاً فريداً لتلاقح الحضارت التي تمثلت في خصوصية طرازها المعماري، وفنّ النحت الجنائزي الذي ازدهر بين القرنين الأول والثالث للميلاد، حاملاً بصمات تمازج التقاليد الكلاسيكية اليونانية والرومانية والآرامية المحلية.
يعتبر معبد «بل» من أهم المعابد في تدمر، وفي سوريا عامة. كان مكرّساً للإله «بل» بشكلٍ رئيس، وللثالوث الإلهي الذي يضمّ الرب بل، ويرحبول رب الشمس، وعجليبول رب القمر. دُشن المعبد في السادس من نيسان (أبريل) عام 32م، وتم الانتهاء من بنائه في القرن الثاني الميلادي. لكن الموقع الذي شُيّد فوقه المعبد، كان قد استخدم لأغراض دينية سابقاً منذ فترة البرونز الوسيط (2200 ـــ1500 ق.م) ولاحقاً في الفترة الهلنستية (القرن الرابع حتى القرن الأول ق.م). يتألف هذا المعبد الفخم من الهيكل الرئيسي أو الحرم الذي يقع في وسط باحة مربعة واسعة محاطة بسور تسمى «التمنوس». كما زوّد السور بأروقة محمولة على أعمدة ذات تيجان كورنثية. يبلغ عدد الأعمدة 375 عموداً يبلغ طول الواحد منها أكثر من 18 متراً. تعكس هندسة هذا المعبد تأثيرات العمارة الكلاسيكية (الإغريقية، الرومانية) المتمثلة في التيجان الكورنثية والأيونية والجبهات المثلثية الشكل والبنية العامة للهيكل. أما التأثيرات المحلية، فتتمثّل في الأبراج فوق الهيكل، وكذلك وجود المحراب داخل الهيكل. كما أنّ بوابة الهيكل شبيهة ببوابات المعابد المصرية. أما بالنسبة إلى الزخارف الموجودة في هذا المعبد، فهي غنية ووفيرة تحمل سماتٍ شرقية وكلاسيكية.
أما الهيكل، فقد شيِّد على مصطبة مرتفعة، يحيط به رواق محمول على أعمدة، وتيجان ذات زخارف كورنثية نقشت عليها مشاهد دينية وأسطورية وزخارف حيوانية ونباتية وهندسية. ويوجد داخل الهيكل محرابان كانا مخصّصين لوضع تماثيل الآلهة على الطريقة الشرقية، إذ توضع التماثيل داخل المحاريب على عكس اليونانيين والرومان الذين يضعون تماثيلهم في الهيكل فوق قواعد حجرية. وكان المحراب الشمالي مكرساً للثالوث التدمري (بل، يرحبول، وعجليبول) في حين كان المحراب الجنوبي مخصصاً للرب «بل» الذي كان يُحمل تمثاله خلال طقوس الطواف. كما زيِّن سقف المحرابين بزخارف متنوعة. تحول الهيكل إلى كنيسة خلال العهد البيزنطي (من القرن الرابع وحتى مطلع القرن السابع الميلاديين)، وتمكن مشاهدة بقايا صور القديسين الملونة على الجدار الغربي. وفي القرن الثاني عشر الميلادي، تحول المعبد إلى قرية محصنة في عهد صلاح الدين، وأصبح الهيكل مسجداً حتى عام 1929 ما أسهم في حفظه من التعديات. كما توجد في المدينة الأثرية معابد عدة أخرى كمعبد بلحمون ومناة الذي بني في جبل المنطار عام 88 م وكان يشرف على المدينة بكاملها، وقد تحول في العصر الأيوبي إلى مزار. وكذلك، هناك معبد نبو الواقع غرب قوس النصر وبدأ بناؤه خلال الربع الأخير من القرن الأول الميلادي وحتى القرن الثالث الميلادي. وأيضاً معبد بعل شمين الواقع في الحي الشكالي وبني عام 129م على أنقاض معبد أقدم منه وتحول في العصر البيزنطي إلى كنيسة. وهناك معبد اللات الواقع في الحي الغربي من المدينة ويعود زمن بنائه إلى القرن الثاني الميلادي وتحول أيضاً إلى كنيسة في العصر البيزنطي، وكذلك هيكل الحوريات وهو بحيرة ماء نصف دائرية تقع في الرواق الشمالي من الطريق المستقيم.
تضم المدينة صروحاً معمارية بارزة كقوس النصر والشارع المستقيم المصمم وفق المخطط الهندسي الروماني حيث بني في عهد الامبراطور سبتيموس سيفيروس (193--211 م) زوج الإمبراطورة الحمصية جوليا دومنا. يتميز القوس بجمال تصميمه ومداخله الثلاثة، أوسعها الأوسط الذي كان مخصصاً للحيوانات والعربات، ويعلوها قوس مزين بنقوش نباتية وهندسية. المسرح نصف الدائري ذو منصة بثلاثة أبواب مبلّطة بالحجارة وقد بني خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين. والأغورا هي عنصر أساسي في عمارة المدينة الكلاسيكية، كانت تشكل عصب الحياة اليومية. هنا كانت تعقد المبادلات والصفقات التجارية والاجتماعات العامة أيام الحرب والسلم. وهي ساحة عامة مسورة ومحاطة بأروقة ذات أعمدة كورنثية الطراز، ويعود زمن بنائها إلى القرن الثاني الميلادي. أما الحمامات المؤرخة بالقرن الثالث الميلادي، فتتألف من الأقسام المعمارية الرئيسية (البارد والدافئ والحار) كما تتميز بوجود مدخل ذي أربعة أعمدة غرانيتية مستوردة من مصر. وكانت تضم قاعة مثمنة حيث كانت الملكة زنوبيا تستقبل ضيوفها. وتمكن مشاهدة أحجار الغرانيت المستوردة أيضاً في المصلبات الأربعة (تترابيل) الموجودة عند نقطة تقاطع الشارع المستقيم مع شارع عمودي آخر، ويعلو كل عمود غرانيتي تاج كورنثي الطراز.
من أبرز سمات الحضارة التدمرية فن النحت الجنائزي والمدافن. إذ تميّزت بالمدافن الأسرية الفخمة والمزخرفة بالفريسكو أو الحجر أو الجص وبالعناية بالتفاصيل لتلائم الإيمان بأن المدفن مسكن للميت. وكان القبر يُغلق بتمثال نصفي يجسد الميت ويحمل نقشاً يوثق اسم الميت وتاريخ وفاته. أما السرائر الجنائزية، فكانت تتصدر الجناح الرئيسي للمدفن وتمثّل باني المدفن وعائلته سواء أكانوا أمواتاً أم أحياءً. ويمكن تصنيف المدافن إلى أربعة أنواع بحسب أنماطها وهي: المدفن-البيت، والقبور الفردية، والمدافن الأرضية والمدافن البرجية.
ولا يتسع المجال للكتابة عن بقية الآثار المهمة كمعسكر ديوقلسيان، وأسوار تدمر، وقلعة فخر الدين المعني الثاني، وقصري الحير الشرقي والغربي، وموقع تل الكوم ولا لتحليل الوضع العسكري الذي أدى إلى سقوط المدينة.

بين تهريب وتدمير

في 12 شباط (فبراير) 2015 سادت موجة من التفاؤل بين أوساط الباحثين والعلماء في العالم إثر تبني مجلس الأمن القرار ذي الرقم 2199 الذي تعهد حماية التراث الثقافي المهدد في سوريا والعراق. قضى القرار باتخاذ تدابير ملزمة قانوناً لمكافحة الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية والممتلكات الثقافية الآتية من العراق وسوريا وتجفيف منابع الإرهاب التي أصبحت القطع الأثرية المهربة أحد موارده الأساسية. ورغم تبني القرار بالإجماع، إلا أنّ الدول المجاورة ــ باستثناء لبنان ودائرة آثاره ــ لم تتعاون لضبط حدودها ومصادرة القطع المهربة التي يصعب تقديرها، بخاصة أنّ مصدر معظمها يأتي من حفريات مباشرة، وبالتالي فالقطع غير موثقة وصعبة التعقب. كما أنّ تداولها يتم في الأسواق السوداء وهواة جمع التحف والمافيات الدولية. وتشكل تركيا ـــ عبر غازي عنتاب وهاتاي ـــ معبراً للمهربين والزبائن حيث تتم مقاضاة القطع الأثرية بالأموال والأسلحة من قبل العصابات وأمراء الحرب. ونتيجة للأوضاع الاقتصادية الكارثية، يلجأ بعض السكان المحليين أحياناً إلى التنقيب العشوائي بحثاً عما يسد رمقهم، وغالباً ما يقعون ضحية الخداع من قبل العصابات المحترفة التي تشتري الآثار بأسعار بخسة.

في خريف 2014، أسس التنظيم إدارة منبج الأثرية بهدف الإشراف وتنظيم عمليات النهب المنهجي للمواقع في المنطقة
وفي خطوة وقحة، أنشأ بعض المهربين صفحة على فايسبوك لبيع الآثار السورية في تركيا، لكن الصفحة متوقفة الآن. إلا أنّ هذا لا يعني أن عمليات التهريب توقفت. ويصعب التحقق من صحة الصور التي نشرها المهربون لقطع أثرية، ويعود مصدر معظمها إلى مواقع مختلفة من الفترة الكلاسيكية، بخاصة مع نشاط حركة تزييف القطع الأثرية ومحاولة تسويقها وبيعها بوصفها قطعاً أصلية.
شكلت تدمر اختباراً فعلياً لمدى فعالية تطبيق القرار، بخاصة أنّها على لائحة التراث العالمي. ورغم مهاجمة جحافل «داعش» للمدينة من محاور عدة، قاطعين أميالاً في الصحراء المكشوفة وتمكن القوات الحكومية من صدّ الهجوم الأولي، إلا أنّ قوات التحالف لم تحرّك ساكناً. ويبدو أنها كانت تفضل هزيمة القوات الحكومية على يد قوات التنظيم على أن تبدو في مظهر المساند له، ويمكن توقع الأقلام التي كانت ستحلل ذلك «التآمر الفاضح» لو حدث التدخل!
ورغم عدم اعتراف «داعش» بأي مواثيق أو قوانين إلا شرائعه ومصالحه الاستراتيجية، فقد دعت المديرة العامة لمنظمة الأونيسكو إيرينا بوكوفا جميع الفصائل المتحاربة إلى وقف الأعمال العدائية داخل الموقع الأثري في تدمر، ما يعكس درجة العجز، مؤكدةً في بيانها: «من الضروري أن تراعي كل الأطراف الالتزامات الدولية بحماية التراث الثقافي وقت الحرب بتفادي الاستهداف المباشر وكذلك استخدامه لأغراض عسكرية».
خلال اتصال هاتفي مطوّل أجريناه مع المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا مأمون عبد الكريم الذي يكرّس كل لحظة من حياته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على الأرض وحشد دعم المؤسسات الأكاديمية الدولية للضغط باتجاه إيقاف التهريب وضبط الحدود، عرض علينا مجمل الأضرار والانتهاكات التي تعرضت لها المواقع الأثرية السورية وفق المنطقة الجغرافية. وأعرب عبد الكريم عن صدمته وحزنه العميق كأثاري وكسوري من سقوط تدمر المفاجئ، «فلا يمكن لأي أثاري أو سوري أن يتصوّر آثار سوريا من دون تدمر التي تحتل مكانة فريدة في التاريخ الإنساني» بحسب تعبيره. كما أبدى خشيته من تعرض المعابد والمدافن لعمليات تدمير على غرار آثار نمرود والحضر ونينوى ومتحف الموصل في العراق، خصوصاً معبد بل والمدافن البرجية. وتوقّع تكثيف عمليات التنقيب بهدف التجارة في حال تمكن التنظيم من تعزيز سيطرته على المدينة لا سيما أنّ الاهتمام العالمي بمدينة تدمر قد يغري التنظيم بإنتاج أفلام دعائية جديدة على غرار ما حدث في العراق. وأكدّ عبد الكريم أنه تمّ تأمين معظم القطع الأصلية في «متحف تدمر الوطني» التي تعكس الفن التدمري من خلال نقلها من المتحف بإشراف آثاريين من تدمر وبدعم الجهات المختصة إلى أماكن آمنة. ورغم النداءات التي أطلقها عبد الكريم قبل أكثر من عام لحث المجتمع الدولي على الضغط على الدول المجاورة لفرض رقابة على حملات التهريب المنظمة التي دمّرت عدداً كبيراً من المواقع الأثرية، إلا أنّ الاستجابة كانت مخيبة من الدول العربية والدول المجاورة. باستثناء لبنان و«المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي» في البحرين و«المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي» (إيكروم ـ الشارقة)، ما زالت دوائر الآثار في الدول المعنية تتعامل مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا كجزءٍ من الحرب القائمة وبوصفها «النظام السوري» في حين تعمل ألمانيا وإيطاليا والمؤسسات الأكاديمية الفرنسية والبريطانية واليابانية بالتنسيق مع المديرية كمؤسسة مستقلة لضبط ورصد القطع المهربة. كما أكدّ عبد الكريم أهمية الدور الذي لعبه المجتمع المحلي وبعض الآثاريين في حماية آثار منطقتهم والتصدي للجماعات المسلحة التي حاولت السطو على الآثار، في حين كان الدور سلبياً في مناطق أخرى كدير مار سمعان الفريد الذي يبعد حوالى 60 كم عن مدينة حلب. إذ تحوّل إلى ثكنة تدريب عسكرية (معسكر نساء النصر والتمكين) لكتيبة من النساء المقاتلات المحليات ممن يعتقد أنهن مواليات لـ «داعش». وقد أنشأت المديرية العامة للآثار والمتاحف خريطة تفاعلية للمواقع الأثرية المتضررة باللغتين العربية والإنكليزية مع إتاحة خيارات البحث عن المناطق المتضررة ومزودة بالصور، ما يتيح للمهتمين فرصة الاطلاع على أحدث البيانات والمعلومات التي يتم رفعها إلى الخريطة كل أول ومنتصف كل شهر. على صعيد الجهود الدولية الأكاديمية والمبادرات العلمية، ظهرت منظمات ومشاريع عدة تعمل على إصدار تقارير دورية توثق الانتهاكات والتعديات على التراث الثقافي المادي السوري ومنها مثلاً مبادرة «التراث من أجل السلام» (Heritage For Peace)، و«التراث السوري في المدارس الأميركية للدراسات الشرقية» (ASOR)، و«جمعية حماية الآثار السورية» (APSA)، و«معهد الأمم المتحدة للتدريب والأبحاث» (UNITA)، و«مركز دراسات الآثاري السوري» (مدماك).

الأخطار المحدقة بالمواقع الأثرية

يمكن تلخيص العوامل المسببة للانتهاكات التي تعرضّت لها المواقع الأثرية بـ:
1) الاشتباكات المتواصلة بين القوات الحكومية وقوات المعارضة أو بين كتائب المعارضة المتنافسة.
2) الأنفاق والبراميل المتفجرة (بخاصة في حلب) التي أدت إلى دمار هائل في المباني والطبقات الأثرية.
3) دوافع إيديولوجية ودعائية إسلامية متشددة.
4) أعمال الحفر والتنقيب بغية النهب والتجارة غير المشروعة بالآثار.
ورغم وجود عصابات تهريب نشطة قبل الحرب، بخاصة في منطقة أفاميا وتدمر، إلا أنّ أنشطتها كانت محدودة. لكن مع تزايد الفوضى والتسليح، تزايد نشاط عصابات التهريب، فبلغ عدد الحفر التي خلفتها في أفاميا ما يزيد عن 15 ألف حفرة في زمن قياسي، مما يؤكده مأمون عبد الكريم. وتكمن الخطورة في تزايد الأفراد المتورطين في عصابات التهريب وتداخل نشاطاتها مع عصابات دولية، بالإضافة إلى استخدامها البلدوزرات التي دمرّت السويات الأثرية تماماً كما حدث في حمام التركمان والصبي الأبيض في الرقة. في تقرير نشره أخيراً عمرو العظم الأثاري وأستاذ تاريخ الشرق الأوسط والأنثروبولوجيا في «جامعة شاوني» في أوهايو، رصد كيف طوّر «داعش» سياساته في إدارة المواقع الأثرية بعد اكتشاف ما تدره أعمال التنقيب والنهب من أرباح مالية. هكذا، بدأ بفرض الخمس (ضريبة 20٪) على المنقبين المحليين عن الآثار لينتقل إلى إصدار رخص تنقيب واستئجار متعاقدين. وفي خريف 2014، أسس التنظيم إدارة منبج الأثرية، نسبة لمدينة منبج القريبة من الحدود التركية بهدف الإشراف على/ وتنظيم عمليات النهب المنهجي للمواقع الأثرية في المنطقة، ما يعكس تحويل التنظيم للمواقع الأثرية إلى مصدرٍ إضافي للتمويل.
وسط استنفار الآثاريين والناشطين السوريين على اختلاف مواقعهم ومواقفهم السياسية لحماية ورصد وتوثيق الانتهاكات بحق آثار بلادهم وإطلاق حملات إعلامية كحملة «أنقذوا تدمر» #SavePalmyra التي استقطبت اهتماماً عالمياً، تعمل بعض وسائل الإعلام المعارضة وبعض الصحافيين السوريين كمطارق الهدم عبر تكريس سردية تحاول اختلاق معضلة أخلاقية خادعة بالمقارنة المثنوية بين الحجر والبشر، والتذرع بأن حملة الاهتمام بالمواقع الأثرية السورية عموماً أمر ثانوي أمام دماء ضحايا الصراع السوري. ووصل الأمر ببعض هؤلاء إلى الزعم بثقة قطعية أنّ السوريين لا يعرفون عن تدمر وصيدنايا إلا سجنيهما الرهيبين والمجازر الدامية التي شهدتهما. هذه السردية ليست جديدة، فمنذ نهاية 2012 على الأقل ومع تصاعد حملات التنقيب العشوائية وتفجيرات الأنفاق (لا سيما في حلب القديمة) بدأ توظيفها في الصراع بل تدعيمها بحديث آخر فُسّر حرفياً وينسب للنبي قوله: «لَهَدْمُ الْكَعْبَةِ حَجَراً حَجَراً أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ»، بحيث يمنح «شرعية» دينية لاستهداف المواقع الأثرية تارة بذريعة وجود قوات نظامية، وطوراً بذريعة أهمية المواقع الاستراتيجية لحماية المدنيين. يكفي الاطلاع على خريطة الصور الفضائية (بين عامي 2012 و2014) لمتابعة عمليات النهب التي تعرضت لها مواقع ماري (الألف الثالث­­ - منتصف الألف الثاني ق.م) ودورا أوروبوس (القرن 3 ق.م- والقرن 3م). هذه المواقع، كمئات المواقع الأخرى التي تتعرض للنهب اليومي، لم تكن خطوط تماس كما حدث في قلعة حلب والحصن والمضيق والجامع الأموي في حلب التي تحولت إلى مسارح عمليات عسكرية، وقد تعرض بعضها للقصف بالآليات الثقيلة والطيران الحربي من قبل القوات الحكومية والاستهداف المباشر من قبل كتائب المعارضة. رغم أن المدنيين السوريين سواء في مناطق سيطرة المعارضة أو في مناطق السيطرة الحكومية كانوا وما زالوا ضحية الصراع الدائر وحروب الوكالة وتجار الحروب من جميع الأطراف في بلدٍ يتفكك تدريجاً، إلا أنّه عبر تسييس الآثار خطابياً وإقحامها في مقارنات عدمية تحاول اختلاق معضلة أخلاقية خادعة، يُسهم المروجون لسرديات «البشر والحجر» في نشر فتاوى قاتلة ضمن قالبٍ صحافي لهدم ليس فقط ما قد يجمع السوريين مستقبلاً مع تفاقم حدة التفسخ المجتمعي والهوياتي، بل أيضاً تدمير أحد أهم أسس الاقتصاد المحلي للسكان والتغطية على عمليات التدمير والنهب والتجارة غير المشروعة.
* باحث سوري