بعدما انتزعه الرقص من التخصص المسرحي في «الجامعة اللبنانية»، تخلى علي شحرور (1989) سريعاً عن الحركية المتاحة في الرقص المعاصر. بدايته كراقص كانت مع «اغتيال عمر راجح» (2009)، وفي «ذلك الجزء من الجنة» (2013) من تصميم عمر راجح، الذي واصل العمل معه في «مقامات بيت الرقص» بضع سنوات، «لكنني اخترت أن أكون محارباً»، هكذا يشبّه الكوريغراف اللبناني الشاب عمله حين وجد نفسه مدفوعاً للتفتيش عن مرجعية لحركته وسط المرجعية العربية المشوّشة للرقص المعاصر. بعيداً عن المفردات الأوروبية والأميركية المستوردة، لم يكن هناك ما هو أقرب من ذاكرة الفنان الشخصية. عثر شحرور على رقصته في أجساد النساء في طقوس العزاء والمناحات البكائية المحليّة التي أخرجت عرضي «فاطمة» و«موت ليلى» إلى الضوء. العملان اللذان كرسا شحرور كوريغرافياً في مدينته بيروت، سيحطان في البرمجة الرسمية لأعرق المهرجانات المسرحية في العالم.
عرضه الجديد الذي نشاهده العام المقبل، سيقارب بكائيات الرجال
بعدما شاهدناهما في بيروت، ثم برلين، وفرنسا، تحط بطلتاه ليلى وفاطمة في الدورة السبعين من مهرجان «أفينيون»، حيث سيستمر كل عرض لثلاثة أيام؛ إذ يقدَّم «فاطمة» (16 و17 و18 تموز/ يوليو) و«موت ليلى» (21، و22، و23 تموز/ يوليو) في Cloître des Célestins في المدينة الفرنسية. يرى شحرور أن اختيار المهرجان لعملين محليين من توقيع كوريغراف شاب للمشاركة في البرمجة الرسمية، يعدّ خطوة جريئة من إدارته. تقتصر أهمية هذه المشاركة لدى علي على مستويات ظروف الإنتاج والإنتشار العالمي، إلا أنها لا يمكن أن تفعل شيئاً حيال المقاربات والتوجه الفني. ذلك أن «العرض اكتمل حين عرض في بيروت». قبل «فاطمة» و«موت ليلى»، كانت قد بدأت تظهر معادلة علي شحرور خارج سياقات الفن المعاصر العربي المتوقّعة. أصوات العزاء وأم كلثوم ولطم الصدور كانت ملمحاً في «على الشفاه، ثلج» (2011) و«دنس، موت صغير، حركة أولى» (2012) اللذين قدمهما مع المصممة والراقصة الفرنسية إميلي توماس منصور ضمن «مقامات». مع «فاطمة» الذي خرج خالياً من الإبهار المفتعل عام 2014، انقشعت خيارات شحرور الناضجة في التصميم. جسدا رانيا الرافعي وأمامة حميدو أعلنا ولادته كوريغرافاً مكرساً على «أطلال» أم كلثوم. حركاتهما خرجت فجّة كالصراخ، وأليفة كالذاكرة وهي تحاكي الجسد الأنثوي المحلي، في حزنه وفرحه المتواري. برغم دقة العمل وخطورة سقوطه في فخ الفولكلور، نزع شحرور عن تلك الطقوس قشرتها المقدّسة، مقارباً إياها كموروث ثقافي وشعبي يتماهى مع ذاكرته الشخصية والحميمية. لم يكن ذلك إلا شقاً للإيغال في الطبقات السياسية والإجتماعية والثقافية والدينية التي تكمش النساء الشرقيات اللواتي تتحول المناحات البكائية متنفساً لأجسادهن. اختار شحرور العمل مع أجساد غير محترفة، لالتقاط تلك الحركات العفوية التي تحافظ على الصبغة العاطفية وعلى الأبعاد المسرحية في طقوس اللطم في التراث الشيعي، وتقاليد بكاء الأحبة. هكذا خرج صوت ليلى في «موت ليلى» العام الماضي كمن يرفض حتمية الموت. العرض الذي قدّمه مع الندّابة ليلى، بدا تفكيكياً، في صلب اللحظة السياسية، مسائلاً مفاهيم الشهادة والموت الفردي وتبدّل طقوسها أمام الموت الأم: موت الحسين وما يحمله من إحالات دينية. أمام الأصوليات التي اجتاحت الشرق الأوسط قبل الوصول إلى أوروبا، يأتي علي ليشخصن الخسارات، باحثاً عن جدواها. وإذ يحيي «موت ليلى» طقوس الرثاء عبر احتفالية جنائزية حركية كاللطم وطرق الرأس بالقبور، وصوتية (مرثيات وندبيات وعتابا) وموسيقية (عبد قبيسي وعلي الحوت)، فإنه يندب الموتى الذين لم يجدوا لهم رثاء في أفراح «الانتصارات الكبرى» للمرجعيات الدينية/ السياسية. إلى جانب هذين العرضين، هناك محطات أخرى لعلي شحرور في «أفينيون»، إذ يناقش (19/7) مع دراماتورج «موت ليلى»، وعضو فرقة «زقاق» المسرحية جنيد سري الدين، قبل أن يحضرا في مؤتمر صحافي (20/7). وفيما يعمل على أطروحة الماجيستير في «جامعة القديس يوسف» في بيروت حول «مرجعية الحركة في الرقص المعاصر»، يعدنا شحرور بعرض جديد يختتم به ثلاثيته حول «الحركة في مراسم العزاء». يتفرغ العرض الذي سنشاهده العام المقبل لبكائيات الرجال. مساحة أخرى تعرّي الرجل المحلي، لتتهاوى صورة الصلابة والقوة حين يصبح البكاء اعترافاً بالهزيمة والضعف. حتى ذلك الوقت، سينتقل «موت ليلى» إلى أميركا وكندا هذه السنة.

* «فاطمة» (16 و17 و18 تموز/ يوليو) و«موت ليلى» (21، و22، و23 تموز/ يوليو) ــ Cloître des Célestins في مهرجان «أفينيون».