التصاميم المعمارية هي الأقرب إلى قلبها
في باريس بداية الخمسينيات، مباشرةً بعد انتهاء الحرب العالمية، وجدت نفسها في محترفات كبرى، تشترك في شغفها مع شلة من الموهوبين، الذين سيصيرون عالميين، كسونيا دولوني وفازاريللي. وعند عودتها إلى لبنان، حملت معها مناخاً باريسياً حلّق كنسيم في أعمالها، التي ستتسم من الآن وصاعداً بطابعٍ زخرفي قد يكون مستقى من أصول عربية وإسلامية ممزوجاً بالتفلت الباريسي من أي شروط مسبقة. وهذه التركيبة المعنوية، على الأرجح، تفسّر تركيبة أعمالها «الفيزيولوجية». تلك الأعمال التي تتشكل من أكثر من قطعة غالباً، متصلة ببعضها اتصالاً خفياً، كما لو أن القطع قادرة على الانفصال في لحظة واحدة. كل قطعة لديها وظيفة، وكل تشظٍّ هو احتمال يستنجد بالخيال لكي يكتمل. إنها أعمال مخادعة، تقود الناظر إليها إلى الخيال أكثر مما تقوده إلى الحقيقة. حقيقة أن الرهافة الظاهرة في عملها «سرّ المكعب» (1960-1962) هي رهافة غير مستلبة، إنما هي تجسيد مفترض لعمارةٍ تغازل الحداثة.
بهذا المعنى، لم تكن سلوى شقير على عجلةٍ من أمرها، كي تسمح للمكان بمغادرة فنّها، أو تترك مكانها نفسها في الزمن للتقليديين. في فترة نضوج قصيدة النثر العربية واللبنانية، ظهر مشروعها «القصائد» (1960 ــ 1968)، بدا كأنه يسبغ التحولات الشعرية في المدينة بنكهةٍ تشكيلية. لقد تأثرت أعمالها في تلك الفترة بلا شك بالشِعر، وهو تأثير لا تخفيه في اسم المشروع، وتظهره أعمالها التي تتوزع على مواد خشبية وفخاريات. وبينما يذهب كثيرون إلى قراءة أعمالها على قياس كرونولوجي، فيعتقدون أن «الثنائيات» (1975-1985)، عبارة عن سد بعض الثغرات في «القصائد»، غالب الظن أنها كانت تفكرّ في شيء آخر. في هذه الفترة يظهر الأسود في أعمالها، وتظهر الحرب في بيروت أيضاً. حضور طفيف يعترف بالحرب، ولكنه اعتراف مسكون بلا مبالاة حازمة. لا يمكن القول إنها تخصصت بالحرب أو أنها تأثرت بها تأثيراً وجودياً. يمكن نفي ذلك نفياً تاماً. لم تكترث للحرب، ولم تتوقف تجربتها عن النضوج، بل تابعت شغفها بالحيّز الكوني على حساب الأفق الضيّق في «مسار القوس». وبين هذا وذاك يجب المرور على «مشاريع النحت بالماء والحدائق». يستوقف الاسم القارئ، إذ يبدو جسداً يبحث عن هوية تستوي في الواقع. كان هذا في بداية التسعينيات، كما لو أنه دعوة هادئة لإعادة الإعمار. أليس غريباً أن تبحث أعمال الفنانة عن أمكنة حرّة في فضاءات المدينة، تزامناً مع موعد انتهاء الاحتراب؟
في مرحلتها الأخيرة تجيب على السؤال، لكن على طريقتها أيضاً. ينتقل اهتمامها من الحدائق العامة وما يصلح للساحات وحواشيها إلى الداخل. سنجد كتباً وأغلفة وما يصلح لأن يكون ديكوراً ناجزاً للوحدة. وِحدة عائمة في فضاء كوني هو عالمها. إنه العالم الذي دفع الفنان جوزيف طراب بأن يصفها بأنها «تحلّق فوق السرب». ويفسّر هذا في وجهين، الأول أنها سبقت مجايليها، والثاني أنها تبحث دائماً عن فضاء أكثر اتساعاً. يسمّيها جوزيف طراب «الفنانة المجددة»، وهذا شعور لا مفرّ منه في كل مرة يُنظر إلى أعمالها. كأنها أعمال بلا شهادات ميلاد، ولا تحتاج إلى حفر العام في أسفلها. أعمال يمكن أن تنتمي إلى أكثر من عصر، بمجرد انتمائها إلى أكثر من فضاء.