كما لو أننا في «الأرض اليباب». لا محطات استثنائية، يمكننا التوقّف عندها، لتسجيلها في القائمة، ففي بلاد تعيش الحرب منذ أربعة أعوام، يصعب أن تقول بثقة: ولكن ماذا بشأن الثقافة السورية خلال عام؟ عفواً، السجال في مكانٍ آخر تماماً. كأن تقول: كم قذيفة شهدت هذا العام، وما هي حصتك من المفقودين، وكم حاجزاً اعترضك، في سباق المسافات الطويلة؟.
الآن نحاول أن نستعيد الشريط مشهداً مشهداً، ونجفّف الصور على حبل غسيل الأمل، من دون جدوى، فالخسائر تتفوّق على ما عداها، ذلك أنّ «الشارع الثقافي» احتله لاعبو الأكروبات، والدمى المحشوة بالقش، والطارئون من لاعبي الاحتياط. لم يعد مجدياً، أن نحرس الأمل، أو أن نقول «في انتظار غودو». نحن لا ننتظر أحداً، حتى لو كان صموئيل بيكيت شخصياً، كما أننا تفوقنا على كافكا في صناعة الكوابيس، مما اضطره للانسحاب من الجولة الأولى. شكسبير أتى «مسرح الحمراء» بصحبة «روميو وجولييت». لم يحتج على العنوان الجديد الذي اختاره زيد الشريف وعروة العربي لنصه الخالد، وقد صار «عن الحرب وأشياء أخرى»، بعدما رأى حطام أسوار «فيرونا» بعينيه.
اختار نزيه أبو
عفش عنواناً موحياً لكتابه الجديد «مضى الربيع كله»
حضر جزءاً من البروفة ثم تسلل خارجاً. على بعد أمتار من «مسرح الحمراء»، كان أسامة غنم قد استضاف هارولد بنتر في ورشة لمعالجة أحد نصوصه الإشكالية، هو «العودة إلى البيت». التقينا في قبو البروفات نفسه شخصيات غرائبية تعيش تمزّقات غير قابلة للترميم، وحياة مقطّعة الأوصال، وإشارات مبهمة، وعبارات ملغّزة، وأسئلة قلقة تتعلّق بالفرد وتقاطعاته مع محيطه، وسيجد المتفرّج نفسه غارقاً في المقارنات بين ما يعيشه من تمزّقات أفرزتها الأحوال الطارئة، وما تقترحه هذه الورشة من حياةٍ موازية للجحيم. وفي عرض «هوب هوب» للمخرج عجاج سليم، كانت المحنة السورية حاضرة أيضاً، إذ تقع فرقة مسرحية في الحيرة بين الذهاب إلى أميركا أم روسيا، فتختلط على الممثلين النسخة النهائية للبروفة، فيما أغلق القوس أيمن زيدان بعرض «دائرة الطباشير» مستوحياً رؤية بريخت بنسخة سورية راهنة، وفرجة مسرحية باهرة. كأن خشبة المسرح السوري ماكيت مصغّر لجغرافية البلاد وهي تعيش حريقها الجهنمي. على الضفة الأخرى، حاول مشروع «سينما الشباب» الذي اقترحته المؤسسة العامة للسينما، أن يملأ الفراغ بمقترحات بصرية جديدة عن طريق منح إنتاجية للهواة، بالإضافة إلى ما أنجزه باسل الخطيب وجود سعيد ومحمد عبد العزيز من مشاريع تصب في «سينما الحرب». أنجز الأول ثلاثة أفلام هي «مريم»، و» الأم»، و»أهل الشمس». أما الثاني فانتهى من تصوير» مطر حمص». وحمل فيلم الثالث اسم «ملائكة النهار»، وجميع هذه الأفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما. يختزل أحدهم الأحوال، بأن سبب ما حدث هنا يتعلّق بلعنة الجغرافيا أولاً، فهذه البلاد منذورة تاريخياً للغزاة، ويضيف بنوع من الأمل المباغت «لكنها تنجو على الدوام». لا إحصائيات دقيقة للآثار المنهوبة، من ريف دمشق وحوران، إلى حلب والرقة ودير الزور. ذهب الإغريق والرومان وتركوا آثارهم مقيمة. لكن الغزاة الجدد حطّموا ونهبوا كل ما وجدوه في طريقهم للحج في» شام شريف». اللعنة نفسها أصابت نصوص الروائيين والشعراء والرسامين والسينمائيين في كتابة الخراب العظيم. لكل واحد من هؤلاء خريطته البلاغية وأرشيفه الحار في إعادة ترميم ما حدث، عبر نصوص مقيمة، وأخرى مهاجرة. بإمكاننا الإشارة إلى روايات نبيل سليمان «نمنوما»، ولينا هويان الحسن «ألماس ونساء»، وفواز حداد «السوريون الأعداء»، كما حصد خالد خليفة «جائزة نجيب محفوظ للرواية» عن «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة». عدا المعارك «الثقافية؟» حامية الوطيس، فوق الرمال المتحرّكة لصفحات التواصل الاجتماعي، في توصيف أحوال البلاد، وافتراس كل من يقف على الضفة المقابلة، مهما كانت قامته الثقافية عالية.
«نوبل» أدونيس الافتراضية، واحدة من تلك المعارك التي استعمل المثقفون السوريون خلالها السلاح الأبيض، استكمالاً لمعارك مشابهة بحق زياد الرحباني وسعدي يوسف ونزيه أبو عفش. الأخير واصل كتابة يومياته غير عابئ بما يدور حوله من اتهامات، حتى أنه اختار عنواناً موحياً لكتابه الجديد «مضى الربيع كله» (دار الآداب). قبل ذلك رحل الشاعر سليمان العيسى بصمت، من دون أن يحقق أحلامه برؤية « قطار الوحدة العربية»، وهو يخترق الحدود الضيّقة من المشرق إلى المغرب، ثم أطاحت قذيفة الممثلة الشابة سوزان سلمان، وانتهت الممثلة نجلاء الوزة منتحرة في جنوب أفريقيا، بالإضافة إلى قائمة طويلة من أصحاب الأسماء المجهولة. كذلك طرأت عناوين أمكنة جديدة لكتّاب غادروا البلاد، ولم يعد مستغرباً، أن نقرأ نصّاً سورياً موقّعاً من باريس أو برلين أو اسطنبول. وانتشرت عشرات المواقع والصحف والمجلات في بلاد المهجر، من دون بصمات غالباً، وسجّل تشكيليون حضورهم اللافت خارج بلادهم، بعدما أغلقت الصالات السورية أبوابها. فقد كنا على موعد مع يوسف عبد لكي، ومنير شعراني، ونزار صابور، وأحمد معلا، وبديع جحجاح، وريم يسوف، ونصوح زغلولة، وآخرين. لا تؤاخذوننا، ليس لدينا ما يبهجكم.