أخيراً بتنا نحظى بسنة ثقافية طبيعية وكاملة إلى حد ما، فقد جرت النشاطات والفعاليات الثقافية في مواعيدها. لم تُلغَ مهرجات الصيف أو تتقلص برمجتها، كما حدث في سنوات سابقة، حين كانت السياسة ومنتجاتها الأمنية تقضم جزءاً كبيراً من مواعيدها. لم تعتذر فرقة أجنبية ولم ينسحب ضيفٌ أجنبي في اللحظات الأخيرة بسبب الأوضاع الأمنية. اشتغلت الغاليريات والمسارح ببرمجة عادية للمعارض التشكيلية والعروض المسرحية، التي باتت تشهد تنازلاً في عددها، بينما شهدت صالات السينما عدداً من الأفلام اللبنانية، التي شارك بعضها في مهرجانات عربية وأجنبية أيضاً، إضافة إلى المهرجانات السينمائية التي أقيمت في مواعيدها، واستقطبت جمهوراً واسعاً.
ولكن برغم ذلك، لم تغب الأوضاع والمخاوف الأمنية عن المشهد اليومي اللبناني، وبضمنه الحياة الثقافية، التي لا تزال غالبية أحداثها مركزّة في العاصمة، مع نشاطات ومشاريع صغيرة ومتناثرة في بعض المدن الأخرى. غابت التفجيرات المباشرة، ولكن الحرب السورية التي دخلت عامها الرابع لا تزال تصنع المزاج السياسي العام، وتقسمه إلى طرفين داخليين متناحرين يتبادلان الاتهامات من منطلقات مذهبية وطائفية جرفت معها نُخباً ومثقفين وكتاباً وإعلاميين أيضاً.
ليست هذه الأسباب نوعاً من التذمر أو الشكوى بقدر ما هي ظروف رافقت وترافق حياتنا الثقافية التي لم تخلُ يوماً من التحديات. وفي مدينة مثل بيروت يبدو ذلك جزءاً من طبيعتها ومن موهبتها في استخراج المادة الثقافية والأدبية والفنية الجيدة من قلب الأزمات والجروح والتصدعات التي تحدث في مجتمعها، الذي اعتاد بدوره أن ارتدادات السياسة باتت خيطاً عريضاً في نسيج المدينة وذاكرتها وهويتها المعرّضة للتهديد دوماً، ولكن كل ذلك صار جزءاً من حداثتها ومدنيّتها وقدراتها على طرح الأسئلة والمشاريع الجديدة التي بات المثقف اللبناني غير قادر على العيش خارج ارتجاج المدينة وأزماتها، واستثمار هذه الأزمات في تأليف وصنع النصوص واللوحات والعروض والأفلام اللائقة بما راكمته المدينة خلال عقود من الحداثة والانفتاح والتطور.
حصل الشبان
على مساحات أوسع لتقديم حساسياتهم المعاصرة

هكذا، واصلت الأجيال السابقة تقديم أعمالها، وحصل الشبان على مساحات أوسع لتقديم نبراتهم وحساسياتهم المعاصرة. أُقيمت الأنشطة في مواعيدها كما قلنا، وكان آخرها النسخة الـ 58 لـ «معرض بيروت العربي والدولي للكتاب»، و«معرض الكتاب الفرنكوفوني»، وقبل ذلك «معرض الحركة الثقافية – انطلياس». تابعنا «أيام بيروت السينمائية»، و«مهرجان بيروت الدولي للسينما»، ومهرجان «السينما تُقاوم» الذي قُدمت عروضه في أماكن مختلفة، بينما واظبت سينما «متروبوليس» على عروضها المميزة على مدار العام، وحضرت نسخة جديدة من «شاشات الواقع»، و«نقاط لقاء»، و«أشغال فيديو». عادت مهرجانات بعلبك وبيت الدين وبيبلوس وسواها بزخم أكبر وأسماء وفرق متنوعة محلية وعربية وأجنبية. وشهدت السنة حفلات موسيقية عدة لزياد الرحباني، وأطلقت أميمة خليل ألبوم «مطر»، وكذلك فعلت تانيا صالح بألبومها «شوية صور»، وجاهدة وهبي بألبوم «شهد»، وشربل روحانا بألبوم «تشويش»، وقُدمت حفلات لريما خشيش وياسمين حمدان وخالد الهبر، وأُقيم مهرجان «بيروت ترنّم»، و«يوم الجاز العالمي»، و«عيد الموسيقى»، بينما واصل «مترو المدينة» تقديم حفلات «فرقة الراحل الكبير»، إضافة إلى برمجة أسبوعية لعروض وأنشطة موسيقية ومسرحية.
في السينما، شاهدنا أفلام «ميراث» لفيليب عرقتنجي، و«طالع نازل» لمحمود حجيج، و«أرق» لديالا قشمر. ومن العروض المسرحية القليلة برز عرض «مجزرة» لكارلوس شاهين، و«جنة جنة» لفرقة «زقاق»، وكوميديا «من الآخر» لعايدة صبرا، ومسرحية «تاهت ولقيناها» لحنان الحاج علي. وفي العروض البصرية، أقامت جمعية «بايبود» «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»، وقدم عمر راجح عرض «وتدور»، وعلي شحرور عرض «فاطمة».
وشهدت غاليريات الفن التشكيلي برمجة سنوية كاملة، فأقيمت النسخة الرابعة من «بيروت آرت فير»، واحتضنت الغاليريات معارض لجميل ملاعب وإيتل عدنان وشفيق عبود وفؤاد نعيم وصلاح صولي وأسامة بعلبكي وتانيا باكاليان وإيلي بورجيلي وسهيل سليمان، واستضاف «مركز بيروت للمعارض» معارض استعادية لميشال بصبوص وبول غيراغوسيان وحسين ماضي، ومعرضاً جماعياً بعنوان «جسر نحو فلسطين». وكما في العامين السابقين، شهدت الغاليريات ذاتها حضوراً لافتاً للمحترف السوري «النازح»، فاحتضنت معارض ليوسف عبدلكي ومنير الشعراني وأحمد معلا وريم يسوف، وأقيم معرض جماعي بعنوان «أوج الفن السوري».
وفي عالم النشر، صدرت كتب جديدة لأسماء من أجيال مختلفة، فصدرت روايات: «نقّل فؤادك» لحسن داوود، و«حي الأميركان» لجبور الدويهي، و«عذراى لندنستان» لحنان الشيخ، بينما صدرت روايات لأسماء شابة نذكر منها: «برتقال مر» لبسمة الخطيب، و«طابق 99» لجنى الحسن، و«قبل وارسو بقليل» لأحمد محسن، و«خلف العتمة» لسليم اللوزي. وفي الشعر: صدرت دواوين عديدة نذكر منها ديوان «صلاة لبداية الصقيع» لعباس بيضون، وديوان «الأيام ليست لنودعها» لعبده وازن، و«ميت سكران يطلب المزيد» لجوزيف عيساوي. ونذكر من الإصدارات الأخرى: «زمن المتاهة» ليمنى العيد، و«زهرة المانجو» لأنطوان أبو زيد، و«ترجمة النساء» لوضاح شرارة، و«مواطنة لا أنثى» لعزة شرارة بيضون.
وأخيراً، شهد العام خسارات ثقافية وأدبية كبيرة برحيل: أنسي الحاج وجوزيف حرب وسعيد عقل وهاني فحص ونزيه خاطر وجورج جرداق وصباح زوين والشحرورة صباح.