النقاش بشأن مشاركة العرب في «مهرجان تورنتو السينمائي» الذي يحتفي بتل أبيب، تكمن أهميته في تجديد السؤال عن مفهوم «المقاطعة»
عدنية شبلي*
في الآونة الأخيرة، دار نقاش حول مقاطعة «مهرجان تورنتو السينمائي» الذي كرم هذه السنة تل أبيب. النقاش جزء من نقاشات دارت منذ عقود. لكنّ أهميته تكمن في أنّه يعيد طرح السؤال حول مفهوم «المقاطعة»، ويدعو إلى تجديد التفكير في الإجابة عنه. شخصياً، لم أشارك أبداً في نشاطات تضع أعمالي في سياق «فلسطين ــ قبالة ـ إسرائيل»، أو تحتفي بإسرائيل كدولة «عادية». وإمتناعي عن المشاركة شخصي بحت. ترعرعت في فلسطين، ورأيت ما لا يمكنه أن يجعلني أكذب، وأدّعي أنني لم أرَ. والمشاركة في هذه النشاطات تندرج بالنسبة إليّ في نطاق العمى والكذب. ليست لديّ مشكلة مع العميان والكذّابين، لكن لدي مشكلة مع الفن الأعمى الكاذب. هكذا حين أُدعى إلى نشاطات من نوع «فلسطين ـ إسرائيل هيا نحاول أن نفهم ونحب بعضنا ولو سراً نحن الفنانين والمثقفين»، لا يستغرقني الرد أكثر مما ذكرت. أحياناً، يغيّر المنظمون نوعية النشاط بعد مناقشتي. وأحياناً قليلة، لا يفعلون، مثلما جرى أخيراً عقب دعوتي إلى مهرجان للأدب المتوسطي في مرسيليا. ولا يخفى على القارئ اللبيب بأن إسرائيل أحد ضيوفه؛ بل يمثلها أ. ب. يهوشوع. وهو أولاً كاتب يمكن للمرء أن يحيا جيداً من دون قراءته، هذا إن تمكن من أن يحيا. فيهوشوع، أحد أبرز الكتاب الإسرائيليين الذين دعموا عدوان غزّة. لنقل إنّ الناجين من المجزرة لن يخسروا إن لم يقرأوه. شرحت ذلك في رسالتي إلى مدير المهرجان الذي ربما فهم وجهة نظري، لكنّه قبِل رفضي وأبقى على مشاركة يهوشوع. يشارك في المهرجان كتّاب عرب، أقدّرهم وأحترمهم. فكرت بالكتابة إليهم عن المشاركة الإسرائيلية وطرح فكرة انسحابهم، ثم شعرت بالخجل. من أنا لأفعل ذلك؟ لكن ليس هذا السبب الوحيد. في أعماقي، هناك ثعلب محتال صغير. من جهة، أعرف أنّه مستحيل عليّ المشاركة. كان ذلك سيثير فيّ الإحساس بالتقيّوء وعدم احترام الذات. لكنني أيضاً وددت لو أن شخصاً آخر شارك عوضاً عنّي، وفعل ما وددت فعله لو كان لديّ قدر كاف من روح المداعبة والفضائحية، وهو عدم ترك المشاركة الإسرائيلية تمرّ بسلام.

مجموعة لنشر الفوضى حيثما يُحتفى بإسرائيل

العرب المشاركون قد يتوقّفون عند الحضور الاسرائيلي في مرسيليا. هناك على الأقل اثنان لم يغلقا عينيهما يوماً عن حقيقة ما يجري في فلسطين. لكن للتأكد من أنّ هذا ما سيحدث، فكّرتُ بطرح اسم كاتب فلسطيني آخر، وترتيب مؤامرة صغيرة معه، بل فكّرتُ حتى في تكوين مجموعة كتاب، أشبه بمجموعة Yesmen التي يتظاهر أعضاؤها الفنانون بأنهم رجال أعمال، فيتلقون دعوات إلى مؤتمرات على مستوى عالٍ للبتّ في شؤون اقتصادية مهمّة. وحالما يصلون، يعيثون الفوضى إلى درجة باتوا يمثلون حالة فزع حقيقية في هذه المحافل.
ماذا لو قام فنانون عرب بتكوين مجموعة مماثلة، هدفها إعاثة الفوضى في مهرجانات تحتفي بإسرائيل، بدلاً من مقاطعتها؟ قد يبلغ هؤلاء حداً يجعل منظمي هذه النشاطات يترددون قبل إقامتها في المستقبل. هذا يعيدنا إلى النقاش حول «تورنتو» ودعوة السينمائيين العرب إلى مقاطعته وتحديداً إيليا سليمان. معرفتي القليلة بسليمان تطمئنني بأن لعبة الـ «يسمين» تلوح في الأفق. بل إنّ فيلمه «الزمن الباقي» قادر على اعاثة الفوضى في خطاب الحب بين تورنتو وتل أبيب. مشاركة سليمان قد تكون «عملية ثقافية»، كما شرح لي فنان فلسطيني لا يمانع في المشاركة في هذه النشاطات، إذ يحمل المبدع ما في جعبته ويرميه في منتصف تل أبيب ـــ تورنتو أو حتى القدس. السؤال هو: هل حقاً في جعبة الفنان «مواد ثقافية متفجرة»، أم انّها مجرد «مفرقعات»؟ أنا شخصياً أرتجف رعباً من الإثنين، لكن إن أراد فنان حملها، فهذا قراره. ما يبقى ضرورياً هو النقاش الذي يعيد التفكير بما يجري كل مرة، بدلاً من الاستكانة لموت ذهني تسيّره قوة القطيع في هذا الاتجاه أو ذاك. لكلّ حقه في اتخاذ قراره. وهذا الحق هو المرجعية الأولى والأخيرة لما يجب عمله، عن قناعة تامة وبصدق. فلسطين لديها ما يكفيها من انتهازيين يدّعون فهمهم لألمها، ولا حاجة لزيادة عدد هؤلاء.
* أديبة فلسطينية