انتهجت «إسرائيل» كل الوسائل لتدمير وتعطيل وشرذمة التربية والتعليم في الدول العربية بكل مكوناتها. ضمن إطار الإبادة المعرفية (epistemicide) التي تعدّ أحد شروط عمليات «الإبادة الجماعية» (genocide) في المشاريع الاستعمارية، استطاع العدو غسل بعض العقول وتغيير بعض القناعات وحرفها عن وعي الانتماء، وإبعادها عن وعي المصالح المرتبطة بالأمة التي ينتمون اليها.ويعدّ فرض المعرفة «الاحتلالية» على رأس اولويات المشروع الصهيوني، باعتباره معبراً يسهّل تحويل الجرم الذي يمس «الهوية» إلى «انفتاح مقبول» في عقول الأجيال فكرياً ونفسياً. فتهويد القضية الفلسطينية يبدأ من هذا العقل، وعبره يسقط العداء للصهيونية، وينسلخ الإنسان عن هويته ويمحى تاريخه، وتصبح عندها مقاومة الاحتلال «إرهاباً».
هل خطر يوماً لنا السؤال كيف استطاع أشتات من البشر المنتمين إلى ثقافات متنوعة وأمم مختلفة إيجاد «دولة» رغم عدم شرعيتها وعدوانيتها، غير آبهين بكل الشرائع والقوانين؟
نجحت الجماعة الصهيونية إلى حد أنها جعلت حركة التاريخ في مساره العام تتحرك طوعاً لتحقيق غاياتها، لأنها فهمت فعل التربية في عملية التاريخ. فاتخاذها منهجاً تربوياً وفقاً لمفاهيم توراتية رسّخ في عقول أجيالها أنّ أرض الميعاد هي فلسطين، وأنها حق قطعه الله لأبناء إبراهيم، وأنّ على اليهودي ألا ينسى صهيون، وأن يعمل جاهداً للعودة إليها. هذه الأقانيم التربوية جعلت الصهيوني كائناً معادياً لأيّ محيط بشري، وخلقت أجيالاً تحمل في سلوكها وأفكارها أبعاداً ومفاهيم تهدد وجودنا، ودفعته إلى القيام بأي أمر حتى ولو كان غير أخلاقي، لتحقيق ما تربى عليه. واستطراداً، استمات البعض بالتضامن معهم باعتبارهم ضحية وأن لهم الحق بالدفاع عن أنفسهم. وهذا يفسر عدم قيام العالم بأي رد فعل جدية، والفشل الذريع للمجتمع الدولي والمحاكم الدولية أخلاقياً وإنسانياً وقانونياً في وقف جرائم إسرائيل ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المستمرة في غزة المحاصرة.

«عربي جديد» في الدولة العبرية
تعدّ مناهج التعليم من حلقات مسلسل الصراع العربي - الصهيوني. فقد استخدم العدو إستراتيجية التغلغل في العالم العربي عبر هذه المناهج ليحقق إستراتيجيته الاستعمارية الاستيطانية، بغية تضليل شعوبها. إسرائيل، بالتواطؤ مع بعض الأنظمة العربية، صنعت في عقول الشباب والنخب صدقية هلامية لسرديتها الثقافية والتربوية، ونزعت عنها الصفة الاستعمارية الحقيقية، فكان ذلك المدخل للتطبيع والإفلات من العقاب.
يسيطر «الشاباك» وأجهزة الاستخبارات بشكل مباشر على جهاز التعليم الفلسطيني بدءاً من تعيين المعلمين والمديرين، وصولاً إلى التحكم بالمناهج التعليمية ومضامينها. المضامين تحتوي على تفصيلات مهولة ومشوهة، وفيها الكثير من الأضاليل والأكاذيب وتزوير التاريخ. ويسعى العدو بذلك إلى خلق شخصية ليست لها علاقة بأي شيء سوى «عربي جديد» مستلب الوعي ومفصول عن امتداده الحضاري وممسوخ الهوية، في «الدولة العبرية».
وبهدف تحقيق ذلك اوصى معهد "امباكت" بالعديد من الخطوات، منها:
• التركيز على شخصيات «مثالية» في كتب التاريخ
يقدم العدو الإسرائيلي قصص ألف ليلة وليلة على أنها التاريخ الإسلامي، ويركز على الأزمات البارزة فيه، ويزيّن تاريخه بأنه مليء بالبطولات والإنجازات الحضارية والإنسانية، ويلمّع شخصيات كانت قيادات للعصابات الصهيونية: مناحيم بيغن، شمعون بيريس، إسحاق رابين شخصيات «مثالية» تدفع إلى الإعجاب بها والاقتداء واعتبارها نموذجاً للتقليد.
• استبدال أسماء في كتب الجغرافيا
استبدل العدو كل أسماء المدن والقرى وحتى الأنهار في فلسطين بأسماء عبرية. مثلاً صفد أصبحت «صفات»، وجبال القدس «يهودا»، وأم الرشراش «إيلات»... وقدّم إلى العالم القدس كعاصمة للكيان الصهيوني لا مدينة محتلة كما يحددها القانون الدولي.
• لا حق للعودة في كتب الأدب
ألغى العدو من كتب الأدب العربي أي نصّ يتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأرضهم، وكل شعر له علاقة بالبطولات التاريخية العربية، ودسّ مكانها مواد خاصة سميت «الأدب الإسرائيلي»، تحتوي على روايات صهيونية وقصص عن المحرقة وغيرها.
• طمس مادة العقيدة الإسلامية
يسيء العدو إلى الدين والأنبياء والرسل والحضارة العربية والإسلامية، ويزيّف الحقائق التاريخية، ويطمس مادة العقيدة الإسلامية. الإسلام هو مجرد «تربية ورياضة روحية»، وتاريخه «قائم على الفتن والكوارث». وعليه، استبدله بمادة التوراة والأساطير اليهودية، وشطب كل السور التي تتعلق بفساد بني إسرائيل، والداعية إلى الجهاد لتحرير الأرض.

«قبول الآخر» والسكوت عن جرائمه؟
يستغل العدو المناهج التعليمية لدسّ قضايا «براقة» في ظاهرها كالحريات وحقوق الإنسان والمساواة، لكن هدفها في غاية الخطورة. فقيم «السلام» و«قبول الآخر» و«الناس مُختلفون لكنّهم متساوون في الحقوق والواجبات» و«نبذ العنف»، هي تربية صحيحة وسليمة. لكن خطورتها تكمن في من يروج لها خدمة لهيمنته، «فالتعليم كما الاقتصاد شأن سياسي، وأداة لإعادة إنتاج الهيمنة» بحسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.
ونسأل هنا: كيف سيفهم أطفالنا وشبابنا الحياة السلمية و«قبول الآخر» الصهيوني، وهو نفسه المحتل والمجرم والساعي إلى إبادة الفلسطينيين؟ ألا يحق للشعوب المغتصبة مقاومة الاحتلال بشتى الوسائل للحفاظ على أمنها وسلامتها وحقوقها؟ وأي «سلام ومساواة» ينطبقان على كيان صهيوني مجرم يغتصب حقوق البشر وينتهك القوانين ويتحدى محاكم العدل الدولية؟

«خالٍ من العنف» متساهل مع الظلم
يصنع العدو الصهيوني ثقافة تخدم استعماره، فيتغلغل في المجتمعات العربية عبر منظمات غير حكومية مرتبطة مباشرة باللوبي الصهيوني. وتزعم هذه المنظمات أنها تعمل وفقاً لمسطرة «أخلاقية» و«قوانين حيادية» وقيم الأمم المتحدة «لتعليم خالٍ من العنف» ومن كل أشكال العنصرية والتمييز والكراهية. لكن الوظيفة الأساسية لهؤلاء هي البحث والتقييم لكل الكتب والمواد التعليمية في الدول العربية للتأكد من أن أطفالنا وشبابنا يتم تعليمهم قبول الآخرين حتى لو كانوا محتلين مجرمين يمعنون في الأذية ويسعون إلى الإبادة، وأن أي نزاع لا بد من حله عبر الملاطفة والتفاوض والتسوية فقط، وتجنب مواجهة الظلم ومقاومة الظالمين.

تشويه المقاومة: ممارسات إرهابية بحق الأبرياء
وفقاً لمسح عام للتقارير المتعلقة بامتحانات البجروت الفلسطينية التي خضع لها الشباب الفلسطيني لعام 2023، استنتج معهد «امباكت» أن المناهج التعليمية تظهر إشكاليات متكرّرة، من بينها العنف ضد إسرائيل، والدعوة إلى الجهاد والاستشهاد بشكل عام، ورفض وجود الكيان الإسرائيلي. وتشير «امباكت» إلى أن هذه الكتب المدرسية تمجّد الإرهابيين وتشيطن إسرائيل وتنكر تاريخها اليهودي وحقها في الوجود، وتزعم أن فيها روايات تاريخية منحرفة وتحريضاً على كره الآخر. وينتهي التقرير إلى توصيات «تحريضية» بقطع التمويل وضرورة تغيير المناهج لتكون «خالية من الصور والأيديولوجيات التي تخلق أحكاماً مسبقة ومفاهيم خاطئة عن الآخر منعاً للتطرف والعنف وتعزيزاً للسلام ومعايير المساواة، لتبادل المعرفة والفهم بين الشعوب المختلفة بعيداً من التعصب والازدراء والكراهية». إذ إن الهدف الأساس لمعهد «امباكت» هو التأثير على الأجيال المقبلة لتساوي الجلاد بالضحية وتتقبل الاحتلال وتتيح للإسرائيليين الإفلات من أي مساءلة أو ملاحقة قضائية بسبب جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي يتمادون في ارتكابها منذ 75 سنة.

عيّنة من الاعتراضات الإسرائيلية على مضامين الكتب المدرسية
1- اعترضت «امباكت» على امتحان البجروت في اللغة العربية لعام 2023 حيث يتم امتحان الطلاب على فقرة من كتاب مدرسي بعنوان «القدس بوصلة» و«المجد» الذي يمجد الاستشهاد في المعركة ويمتدح «الفرسان» الذين «يذهبون إلى موتهم بابتسامة»، ورأت أن ذلك ينفي الارتباط التاريخي اليهودي بالمدينة ويصفه بأنه «ادعاءات لا أساس لها من الصحة» و«روايات مشوّهة» و«حكايات خرافية».
2- زعمت «امباكت» أن امتحانات الجغرافيا لعام 2023 تجاهلت وجود إسرائيل وأبرزت «خريطة فلسطين» من النهر إلى البحر معتبرة كامل الأراضي جزءاً منها. وهذا يعدّ عدم اعتراف بإسرائيل «الدولة العضو في الأمم المتحدة»، ولا يشجع الطلاب والأجيال على «القبول»، بل يمنع أيضاً أي تسوية مستقبلية بشأن «حل الدولتين».
3- يُطلب من طلاب الثانوية العامة في مادة التاريخ شرح كيفية استفادة الولايات المتحدة من أحداث 11 أيلول «لفرض هيمنتها على العالم». ورأت «امباكت» أن ذلك يعلم الطلاب أن الولايات المتحدة استغلت تعرّضها لهجوم إرهابي لبسط سيطرتها وحكمها وهيمنتها على دول أخرى، وهذه «صورة سلبية تزرع في عقول الشباب».

حرب على الأونروا
ونشر معهد «امباكت» تقريراً بعنوان «التعليم في الأونروا: الكتب المدرسية والإرهاب» لفت إلى أنه رغم تعديل الوكالة بعض هذه الكتب المدرسية، إلا أنها بقيت «معادية للسامية» بشكل علني واستمرت بـ«التشجيع على العنف والجهاد». وذهب المعهد إلى اتهام المعلمين بأنهم وراء تشجيع الطلاب على العنف ونشر أيديولوجيات متطرفة في الكتب لا تتناسب مع «السلام الذي تسعى إليه إسرائيل».
ألغى العدو من كتب الأدب العربي أي نصّ يتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأرضهم


وتضمن التقرير مزاعم استند العدو الإسرائيلي إلى بعضها لتصفية أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945. حيث جاء في التقرير:
1- مزاعم احتفال موظفي الأونروا في 7 أكتوبر
قدم التقرير «داتا» متعلقة بصفحات الأساتذة المعلمين في مدارس الأونروا مدعية أنها مواد أخذت من مصادر مفتوحة بهدف تحليل وسائل التواصل الاجتماعي. وأبدت المنظمة امتعاضها من إشادة المعلمين بهجمات تشرين الأول/ أكتوبر ووصفها بـ«الانتصار الحقيقي الأول» على طريق تحرير كل الأراضي الفلسطينية. وخلص التقرير إلى أن مثل هذه «الإشادة والاحتفال والتعبير عن الدعم لجهات قتلت مدنيين إسرائيليين، تشجيع على الوحشية والإرهاب وتأييد لقتل الأبرياء».
2- خريجو مدارس الأونروا «إرهابيون»
يوثق التقرير في جزئه الثاني «إرهاب» الطلاب الذين تخرجوا من مدارس الأونروا، ويسعى إلى التأكيد بأنهم شاركوا في الأعمال الإرهابية تنفيذاً لأجندة «حماس». وتفنّد المنظمة أسماء «الإرهابيين»، وتدعي حقائق لا أساس لها من الصحة وغير مستندة إلى أي تحقيق علمي أو قانوني، لا بل تبرّر قتل المعلمين لمشاركتهم المزعومة في هجوم 7 أكتوبر.
3- كتب الأونروا معادية للسامية
تمتعض «امباكت» في تقريرها من تمجيد الكتب المستخدمة في الأونروا للمقاومين والاستشهاد أو الجهاد، وتراه فصلاً من فصول الكراهية والتحريض. إذ «لا يمكن تحويل الإرهاب إلى بطولة» أو الإشارة إلى أن «المجازر خالدة في قلوب وعقول الفلسطينيين». واعتبرت ذكر الشهيدة البطلة دلال المغربي في الكتب المدرسية تمجيداً لها وزرع الاقتداء بها في عقول الأطفال، وهذا «عمل مشين»، لا بل تذهب إلى وصفها بـ«الإرهابية» التي نفذت «مجزرة» 1978 التي راح «ضحيتها» 38 «مواطناً» إسرائيلياً.

في الحلقة الثانية: تعديل مناهج التعليم في بعض الدول العربية لصالح "إسرائيل"



IMPACT-se
«معهد مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي (Institution for Monitoring Peace and Culture Tolerance in School Education) منظمة إسرائيلية غير ربحية تأسست عام 1998، مركزها الرئيسي في القدس المحتلة، وتعمل على مراقبة محتوى الكتب المدرسية وتدقّق في المناهج التعليمية في العالم، ولا سيما في دول الشرق الأوسط، (سوريا، العراق، الإمارات، السعودية، أفغانستان، اليمن، السعودية، مصر، الأردن، إيران، المغرب، قطر، تونس، وفلسطين)، وتقدم أبحاثاً وتقارير حول هذه المناهج، وتذهب بعيداً في تقديم الاقتراحات والبدائل والتوصيات بغية الضغط والتأثير في قرارات المنظمات الدولية والحكومات وفرض إزالة أي محتوى تعليمي «يحرض على الإرهاب ويعادي السامية ويناهض الاحتلال» في الدول المذكورة.


«جرائم» المعلّمين
1- الإشارة الى انتهاك «إسرائيل» للقانون الدولي.
2- التشجيع على ممارسة الحق في المقاومة والكفاح المسلح.
3- رفض الاحتلال ومناهضته.
4- «معاداة السامية» بسبب رفض ومعاداة الصهيونية.
6- «رفض حق إسرائيل في الوجود» بسبب رفض نظام الأبارتايد الإسرائيلي.


«خبراء» إسرائيليون في المناهج التربوية

جاي رودرمان


رئيس مؤسسة رودرمان التي تعنى بتثقيف القادة الإسرائيليين بشأن الجالية اليهودية الأميركية.
انضم إلى الجيش الإسرائيلي عام 2005، وتولى إدارة مكتب المجلس الوطني للجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (أيباك) في فلسطين المحتلة.

نير بومز


باحث في «مركز موشيه ديان» في جامعة تل أبيب، ومؤسس شبكة مدوّنات في الشرق الأوسط تركز على «حرية التعبير وتعزيز الحوار»، ويشغل اليوم منصب الرئيس المشارك للمنتدى السياسي الإسرائيلي - الإماراتي.

ديفيد لوي


شغل منصب الرئيس التنفيذي للامتثال لدى بعض أكبر مستشاري الاستثمار في الولايات المتحدة، وهو عضو المجلس الوطني للجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (أيباك).

سوزان واغنر


رئيسة ومؤسسة عائلة ناثان وإستير للأنشطة الخيرية، تعمل في مجالس إدارة معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومركز الأعمال الخيرية اليهودية، وهي عضو في مجلس إدارة »الأجندة اليهودية في نيويورك» NYJA