عام 2018، خرجت إلى العلن قضيّة / فضيحة شركة تحليل البيانات «كامبريدج اناليتيكا» Cambridge Analytica البريطانية التي حصلت على البيانات الشخصية لنحو 87 مليون مستخدم «فايسبوك»، وباعت خدماتها في حوالي 60 دولة، واتُهمت بالتلاعب بنتائج الانتخابات والاستفتاءات في عدد من دول العالم (الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2020). ولكن، في حينها، لم يُكشف عن كلّ ما يتعلّق بهذه القضيّة، وتمكّن بعض المتورّطين الفاعلين الأكثر تأثيرًا من الاختباء، ومن بينهم خبراء قرصنة وأمن سيبراني إسرائيليون غامضون يعملون ضمن فريق يديره شخص يُعرف باسم «خورخي». (كشفت تسريبات قضيّة «كامبريدج أناليتيكا» عن وجود هؤلاء المتسللين والقراصنة وأساليب عملهم).بعدها بخمس سنوات، تمكّن صحافيون استقصائيون من تعقّب «خورخي» ومعرفة هويّته الحقيقية بعد تحقيق سري استمرّ أكثر من ستة أشهر. كان هذا الشخص لا يزال يستخدم ذات الاسم المستعار ويبيع خدماته «لمن يدفع أعلى سعر». ومع الوقت، تكيّفت أدواته مع أحدث التطورات التكنولوجيّة، مستخدمًا سلاح الذكاء الاصطناعي الذي مكّنه من كتابة برمجيات خبيثة حسب الطلب، وتفعيل حسابات مزيّفة أو «بوتات» بالآلاف تتفاعل على مدار الساعة على منصّات التواصل الاجتماعي وإنشاء محتويات مضلّلة.

من هو «خورخي»؟
«خورخي»، أو «جاي» كما كان يوقّع بعض رسائل البريد الإلكتروني الخاصة به، هو رجل الأعمال والضابط المتقاعد في جيش الاحتلال الإسرائيلي تال حنان (ولد في الكيان الإسرائيلي عام 1973). خدم في القوات الخاصّة الإسرائيلية كخبير متفجّرات، وفقا لسيرته الذاتية. يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركتي Tal Sol Energy وDemoman International Ltd. الإسرائيليتين، والأخيرة شركة استخبارات مدرجة في سجلّ شركات الأمن والدفاع على الموقع الإلكتروني لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وتعمل في خدمة مصالح الكيان.
نظّم حملات بعض مجموعات الضغط (اللوبيّات) في الولايات المتحدة بواسطة مستشارين وعبر شركة علاقات عامة أسّسها تدعى Axiomatics. وفي الأعوام التي أعقبت هجمات أيلول 2001، قدّم حنان نفسه كخبير في «مكافحة الإرهاب». ويدّعي، وفقًا لصفحة مؤرشفة من موقعه الإلكتروني، أنه قام بتدريب هيئات إنفاذ القانون بما في ذلك الوكالات الفيدرالية الأميركية.
أسّس شركة «علاقات عامّة» باسم «فريق خورخي» تضمّ ما لا يقلّ عن 100 شخص ملمّين بعمل أجهزة المخابرات، يستخدمون حملات التضليل والاستخبارات الكاذبة والاختراق والابتزاز لتعزيز مصالح عملائهم من شخصيات سياسية ورؤساء دول. وتزعم المجموعة أنّها عملت في العشرات من الانتخابات الرئاسية و«عمليّات التغيير السياسي» حول العالم وتجني أرباحًا بملايين الدولارات.

في قلب آلة التضليل
تمّكنت «الشركة» التي يديرها تال، بمساعدة أخيه زوهار حنان (يشغل منصب مدير تنفيذي لشركة أمن خاصة) وضابط الشاباك السابق ماشي ميدان وفريقهم المؤلّف من أعضاء سابقين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، من العمل على مدى عقدين من الزمن على تضليل الرأي العام في عشرات الدول، والتدخّل في العمليات الانتخابية ونتائجها، وإثارة النعرات والفتن التي أدّت إلى أحداث دموية في كثير من الأحيان، عبر عمليات قرصنة وتخريب وتزوير وثائق ومستندات حسّاسة ونشر معلومات مضلّلة على منصّات التواصل الاجتماعي.
عمليات هذا الفريق ليست بهدف الربح المادي أو المنفعة الخاصّة فحسب، بل تعمل بشكل منظّم كما غيرها من الشركات-الأذرع (NSO/ Pegasus وغيرها) وفقًا لمصالح الكيان وبإمرة أجهزة استخباراته وحكومته. إذ لا يمكن تصوّر شركة خاصّة يمكنها التواصل والعمل مع وكالات استخبارات أجنبية، ولديها زبائن وعملاء برتبة رؤساء وشخصيّات رفيعة المستوى من كافة أنحاء العالم، وأن تنجح في تأليب الرأي العام في أفريقيا والعالم العربي وأميركا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا، من دون أن تكون مرتبطة بأهداف أو مشاريع على مستوى أكبر، ولكن مع وضع حدّ فاصل، بحيث لا يتحمّل الكيان الإسرائيلي مسؤولية «رجال الأعمال» حتى لو معظمهم ضباطًا وعناصر سابقين في الجيش أو الاستخبارات.
موظفو هذا الفريق متخصّصون في عمليات اختراق تطبيقات المراسلة كتيليغرام وحسابات البريد الخاصّة وحسابات التواصل الاجتماعي، ورصد أرقام السياسيين والتنصّت عليهم، ولديهم فريق عالمي لمراقبة السياسيين المستهدفين، ورصد أفعالهم، والتقاط صور لهم لاستخدامها ضدّهم، أو لابتزازهم.
تقدّم الشركة لعملائها كل خدمات «وكالة استخبارات خاصة»: القرصنة، تزوير وثائق، شبكة ضخمة من الحسابات الوهمية بهويّات مزيّفة على شبكات التواصل الاجتماعي، نشر مقالات أو محتويات في وسائل الإعلام.
والجدير بالذكرأن وكالة أمنيّة إسرائيلية دفعت لشركة حنان مئات آلاف الدولارات قبل 15 عامًا مقابل تقارير ملفّقة تزعم تفاصيل الأصول المالية لإيران وحزب الله وربطها بعمليات غسيل الأموال وتجارة المخدّرات.

تقنيات متقدّمة في نشر الكذب
AIMS “Advanced Impact Media Solutions” ، أو «الحلول الإعلامية ذات التأثير المتقدّم»
تقوم هذه التقنية بإنشاء صورة رمزية (أفاتار)، وبعد اختيار بلد الإقامة والجنس والفئة العمرية للمستخدم الوهمي، يعرض البرنامج مجموعات من الصور (مسروقة من ملف تعريف حقيقي) ليستخدمها لإكمال الملف الشخصي.
هذه الهوية الوهمية يمكن أن تعمل على منصّات مختلفة (غوغل وفيسبوك وإنستغرام هي الوسائل الأسهل). كما يمكن للمستخدم أيضًا إنشاء حسابات على مواقع مثل أمازون أو ايربي ان بي أو ريديت ونتفليكس أو حتى المحافظ الرقمية.
لتجاوز عمليات تأكيد الهوية في المواقع المختلفة، يتمّ إرسال رسائل نصية إلى أرقام افتراضية تم إنشاؤها للأفاتار حيث يؤدّي اجتياز هذه الاختبارات إلى صعوبة التعرّف على الحسابات الوهمية التابعة لفريق خورخي على أنها مزيّفة.
لا توفّر أداة AIMS إمكانية إنشاء الصور (الأفاتار) فحسب، بل يمكن إنشاء محتوى مدعوم من الذكاء الاصطناعي أو الآلة ونشره، حيث يمكن لمشغّل واحد أن يحمل 300 ملفّ شخصي (كجيش من المرتزقة)، وباستخدام الكلمات الرئيسية، يمكن للأداة فبركة منشورات أو مقالات أو تعليقات أو تغريدات تحاكي السلوك الحقيقي لمستخدمي الإنترنت بأيّ لغة، وبنبرة «إيجابية» أو «سلبية» أو «محايدة». بعد إدخال الكلمات المفتاح في «تويتر»، على سبيل المثال، تبدأ الأداة بإنتاج 10 تغريدات سلبية عن الموضوع أو المحتوى. وبعد لحظات ستنهال التفاعلات والتعليقات من حسابات قد تبدو حقيقية تعلّق بسلبية أو بغضب ممّا يثير ردّات فعل معارضة أو موافقة لما تمّ نشره، ويساهم في خلق رأي عام لدى الجمهور في كثير من الأحيان، بناءً على الدعاية التي يريدها المشغّل.
التعاون بين وسائل الإعلام الغربية ووكالات الاستخبارات المعنيّة للتلاعب بالرأي العام ليس أمراً جديداً، كما أظهرت عدّة حالات في السنوات الأخيرة. نستطيع أن نتخيّل في هذا السياق نشاطات هذه الأدوات الاستخبارية لدى العدو في أحداث العالم اليوم، لا سيما في تغطية أخبار العدوان على غزّة وما يرافقه من تبعات على مختلف الصعد، ممّا يبيّن لنا مدى تغلغل العمل الاستخباراتي والأمني للعدو وتقدّمه في مختلف الساحات، أبرزها الفضاء السيبراني، وأهمية مواجهة هذا الهجوم بوعي لأدقّ التفاصيل، وعدم الانجرار والوقوع في فخّ الدعاية الإسرائيلية.