الأب إميل يعقوبيحضر يسوع الطفل إلينا كل سنة في مثل هذه الأيام ليذكِّرنا بأن المسيحيّة قامت على أعتاب مذود البهائم، وأنّ تاريخ الحضارة انقسم بين ما قبل ميلاد يسوع المسيح وما بعده. وسيرة يسوع الطفل إلى سن الإثنتي عشرة ترتكز حول ميلاده في بيت لحم من بلاد فلسطين، ثمّ ذهابه مع والدته مريم والمربي يوسف الصدّيق، إلى بلاد مصر تجنبًا لبطش هيرودس، الملك الذي أراد قتله وقتل كل الأطفال دون السنتين من العمر.
ولا شكّ في أنّ العائلة المقدّسة اتخذت طريقها إلى مصر مرورًا بمدينة غزَّة العريقة، وهي الطريق الساحلية القديمة التي وُجدت من قديم الأزمنة، وقد بناها الكنعانيون وهم أوَّل من سكنها، كما يشير إلى ذلك «قاموس الكتاب المقدس» (منشورات مكتبة المشعل في بيروت الطبعة السادسة 1981). وقد أطلق الكنعانيون عليها اسم غزَّة الذي معناه باللغات الساميّة القديمة «القوّة». وورد ذكرغزة في رسائل تل العمارنة (هي مجموعة كبيرة من الألواح الطينية باللغة الأكادية البابلية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد).
وعلى الأرجح أن مريم ويوسف والطفل يسوع استراحوا في غزَّة وباتوا فيها ليلتهم قبل متابعة مسيرتهم إلى مصر. إذ كانت غزة محطة استراحة للمسافرين بين مصر وبلاد الشام.
هذه أرضهم يسيرون عليها مسيرة أجدادهم ولا يرعبهم أمثال هيرودس ولا حلفاء هيرودس من الشرق أو من الغرب


في الأحداث الدموية التي تدور رحاها في غزّة اليوم، نكاد نرى يسوع محمولًا بين ذراعي أمّه مريم، «وجهان يبكيان» كما هي حال أمّهات غزّة وأطفالهن. يموتان معهن، ويقومان معهن من تحت الأنقاض نتيجة القصف الإسرائيلي الهمجي، أشلاءً أو أحياء في مسيرة «القوّة» التي اشتهر بها الغزّاويون. إنّهم يكملون مسيرة حياتهم على درب الجلجلة، لتبقى لهم الأرض وما تنتجه تربتها من قمح وبرتقال وعنب وتين وفاكهة وخضار مختلفة. هذه أرضهم يسيرون عليها مسيرة أجدادهم ولا يرعبهم أمثال هيرودس ولا حلفاء هيرودس من الشرق أو من الغرب.
ومسيرة يسوع الطفل مستمرّة بين بيت لحم وغزّة ورفح ومصر، وعودته يافعًا إلى الناصرة وجليل الأمم، وشابًا ينطلق برسالته من كفرناحوم وكفرشوبا وشبعا وسهل الخيام وكوكبا مرورا بمغدوشة إلى صيدا حيث لم يجد إيمانَا أقوى من إيمان المرأة الكنعانية التي أجابها يسوع: «ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين» (متى 15 / 28).
وأقول لكم يا أبناء غزّة: نحن نؤمن أنّ المحبة أقوى من الموت، ومحبة بعضكم لبعض ستنشلكم من تحت الدمار ولن يكون للموت عينان بعد انقشاع الغبار عن مدينتكم واندحار جحافل الشرّ عنها.
وإننا نصلي.