لم يبقَ مسؤولٌ غربيّ أو أمميّ، صغيراً أو كبيراً، إلّا وأكّد ضرورة التزام « الأطراف جميعها» القانون الدولي الإنساني في سياق حرب «إسرائيل» على غزة وأهلها. و«تجرّأ» بعضهم وطلب ذلك، لو بخجل، من الكيان الإسرائيلي وجيشه. فهي جملةٌ تُقال، لا وزن لها ولا تبعات في قاموس السياسة الدولية وموازين القوى والمصالح. ولا يعرف ذلك أكثر من المظلومين في العالم، بمن فيهم اللبنانيون والسوريون واليمنيون والعراقيون والليبيون والسودانيون، وعلى رأسهم الفلسطينيون.الهدف من إنشاء القانون الدولي الإنساني ومنظومته لم يكن منع الحروب، لأن واضعيه أدركوا أن لا أمل من ذلك، فقرّروا وضع قوانين لتنظيم الأعمال الحربية، غايتها تجنيب الشعوب ويلات حروب العسكر والسياسيين ومآسيها، وبالتالي إنّ القاعدة الأساسية لهذا القانون هي تجنّب استخدام القدرة على الإضرار بالمدنيّين، بخاصة استهدافهم بوصفهم وسيلة للضغط على الطّرف الآخر.
وذلك تماماً ما يفعله الإسرائيليون اليوم من قتل وتجويع وتعطيش للمدنيين في غزة بهدف الضغط على المقاومة لتقديم التنازلات أو حتى الاستسلام. ونتيجة الحصانة التي تمتّع بها النظام الإسرائيلي، أصبحوا لا يتردّدون بطعن جوهر القانون الدولي الإنساني بفجاجة ووحشيّة يصعب تبريرها أو تقبّلها حتى لدى جزء متنامٍ ممن كانوا من مؤيدي النظام الإسرائيلي بالأمس القريب. فليس من السهل تبرير حصار مستشفى في داخله مدنيون وأطفال وخدّج، وقصفه، بل إنّ حماية منشآت العناية الطبية وحظر استهدافها قد يكونان من أكثر الأمور بديهيّة في مجال قوانين الحروب وأخلاقيّاتها.
طبعاً يدّعي الإسرائيليون والصهاينة وحلفاؤهم والمدافعون عنهم، بكل براءة وقناعة، أنّ جيشهم ودولتهم يحترمان القانون الدولي، بل يخرج المتحدّثون الرسميون والساسة منهم معلنين أنّ عمليتهم العسكرية الحالية في غزة تحدث وفقاً للقانون الدولي الإنساني، بثقة تقنع من يريد أن يقتنع لينامَ مرتاح الضمير، وتكاد تقنع من لا يعرف إلّا القشور. أما باقي الناس، فيجدون في مثل هذا الادّعاء نكتةً واستخفافاً بقيم يُجمع عليها العالم.
لذا تجد غالبية داعمي النظام الإسرائيلي يحاولون تلطيف انتهاكات الهجوم الإسرائيلي على غزة للأعراف والقيم كلها عبر ترديد ادّعاء أنّ «دفاعه عن النفس» ضدّ المقاومة الفلسطينية في غزة حقٌّ مشروع. المشكلة الأساسية في هذا الادّعاء أنّه خطأ، كون حقّ الدول في الدفاع عن نفسها ينطبق فقط في حال وجود تهديد خارجيّ وفقاً لميثاق الأمم المتحدة. وكانت محكمة العدل الدولية قد نفت أن يكون هذا الحقّ ينطبق في حالة مواجهة النظام الإسرائيلي لمخاطر نابعة من مناطق تحت احتلاله وسيطرته. وأبعد من ذلك، ينصّ القانون الدولي الإنساني على أنّ واجب القوّة القائمة بالاحتلال توفير الحماية للسكّان الذين يعيشون في مناطق سيطرتها، أي الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
القانون يكون قانوناً مُلزماً ويُفرض فرضاً، ولا يكون مجموعةَ توصياتٍ تختار الدّول ما يناسبها منها


أما المفارقة الأكبر والأكثر فتكاً بفعالية القانون الدولي ومصداقيّته، فهي غياب تعامل القيّمين عليه بوصفه قانوناً ملزماً، بل يتصرّفون ويتحدّثون عنه كأن الالتزام به اختياري أو قابل للنقاش، إلّا حين تريد الولايات المتحدة غير ذلك. فيخرج أمين عام الأمم المتحدة وغيره من المسؤولين الأمميّين وقادة الدول ليطلبوا، إن طلبوا، أو يوصوا العدو الإسرائيلي بضرورة التماشي مع القانون الدولي. فالقانون يكون قانوناً مُلزماً ويُفرض فرضاً، وليس مجموعة توصياتٍ تختار الدول ما يناسبها منها. طبعاً، لا يخفى أن هدف عددٍ ممّن يطلبون علناً من النظام الإسرائيلي مراعاة القوانين الدولية، هو التقليل من الإحراج أمام هول المجزرة، وملزمة يجب أن تُقال لتمكينهم من غضّ الطرف عن الانتهاكات مع المحافظة على صورتهم بوصفهم مدافعين عن القانون الدولي وحقوق الإنسان والحضارة.
فعليّاً، «إسرائيل» هي أكثرُ مَن خرَق القانون الدولي منذ تأسيس الأمم المتحدة، من دون أن يطالها أي نوع من المحاسبة، ليتكوّن تعبير «الاستثناء الإسرائيلي». وكان هذا القانون يتلقّى طعنة في كل مرّة استُثنيت فيها الانتهاكات الإسرائيلية من المحاسبة، ليأتي هول الحرب الحالية على غزة وحجم الخروقات بوصفهما إعلان استشهاد القانون الدولي الإنساني في مستشفى الشفاء في غزة على يد الجيش الإسرائيلي، لينضمّ إلى من أخفق في حمايتهم من أطفال غزة وغيرهم من عشرات آلاف شهداء القضية الفلسطينية والحقّ الفلسطيني.