«نايمين قعود بغرفة ما بتساع إلا شخصين أو ثلاثة، وبالليل الصراصير بتلعب بيناتهم». يقول وسام، والد أحد نزلاء نظارة قصر عدل صيدا، شارحاً الظروف الشاقة والمعقدة التي يعانيها ابنه الذي صدر بحقه حكم منذ أشهر، وينتظر نقله إلى السجن. «كيف يعني عشرة أشخاص بغرفة ثلاثة أمتار بثلاثة؟ مع حمّام موجود داخل الغرفة ومفتوح يعني إذا العشرة بدهم يقضوا حاجتهم بنفس النهار كيف بيستحملوا الروائح؟ لماذا لم ينقل إلى السجن حتى الساعة؟». وينقل وسام شكوى ابنه من الرائحة الكريهة والرطوبة العالية داخل النظارة، حيث «يكادون يختنقون من الحرّ وانعدام التهوية، ومن عدم وصول ضوء الشمس إلى غرفة الحجز».وتقول منى، والدة نزيل نظارة قصر عدل بعبدا، إن ابنها بات يعاني مرضاً جلدياً بسبب البيئة السيّئة داخل النظارة. «صرلوا من شهر أيار بالنظارة وما حضر إلا جلسة وحدة وبعده ناطر». ينام ولدها قرب باب المرحاض المفتوح على الغرفة لأنه الموقوف الأجدد، بحسب «العُرف» داخل النظارة التي تضمّ 10 أشخاص، «الجداد بيناموا حد الحمّام والباقي فوق بعض، عايشين برطوبة عالية وحرارة وقذارة، ما بستغرب أبداً يكون عند ابني جَرَب»، مشيرة إلى أن تأمين مواد التنظيف والأدوية والطعام والماء يقع على عاتق الأهالي فقط.
«يستحيل العيش في ظل حرارة مرتفعة في مثل هذه الظروف السيئة؟» يقول أحد المحامين، وهو وكيل موقوف داخل نظارة قصر عدل النبطية. يؤكد المحامي الذي أوكل متابعة ملف الموقوف منذ ثلاثة أشهر من دون محاكمة أن «هذه النظارات غير صالحة للبشر. إذا أرادوا المماطلة في تعيين جلسة، ليضعوا موكلي في السجن المركزي». ويضيف أن موكله يشكو من الإنارة الضعيفة، ومن إضاءة الغرفة ليلاً في بعض الأحيان.، ومن انعدام منفذ للهواء «مجرد شباك زغير كتير، لغرفة ستة أمتار بثلاثة، تضم سبعة أفراد». أما النوم «فعلى الأرض» فوق بعضهم بعضاً، أو «كل اثنين على فرشة ريحتها قذرة من الرطوبة». يعود الاكتظاظ، وفق المحامي، لأسباب عدة، أهمها عدم القدرة على «سَوق» الموقوفين من النظارات إلى المحكمة التي يمكن أن تقرر إخلاء سبيلهم إذا حضروا. ويقترح وضع الموقوفين داخل نظارات ضمن نطاق المحكمة التي تنظر في ملفاتهم، لكي يؤمَّن نقلهم إليها. (راجع «القوس»، 22 تموز 2023، ما في «سَوق»).

النظارة أصبحت سجناً
«النظارات في قصور العدل أصبحت شبيهة بالسجون، الوضع مؤسف ومزر جداً» يقول رئيس جمعية «عدل ورحمة» الأب نجيب بعقليني، لافتاً إلى أن الجمعية تعمل ضمن نظارة قصر عدل الجديدة وبعبدا، حيث الأمكنة ضيّقة جداً. إذ يتضمّن قصر عدل بعبدا مثلاً ست غرف كل غرفة منها تستوعب ستة أشخاص، ويوضع فيها حالياً 30 محتجزاً وأكثر. «النومة بالدور، كيف فيهم يناموا 30 شخصاً وأكثر بغرفة ما بتتجاوز 15 متراً مربّعاً؟».
كما تعاني النظرات، وفق بعقليني، من عدم توفر مكان للنزهة، حيث لا يرى الموقوف الشمس. مشيراً إلى أن التيار الكهربائي في انقطاع مستمر، كما تطاول المعاناة الطبابة «غير المتوفرة، ونساعد من خلال ممرض والمرافقة الاجتماعية والمعالجة النفسية فقط». وطالب بعقليني الحكومة بإيجاد الحلول المناسبة فـ«الجمعيات وحدها ما فيها تلاقي الحل». ويضيف: «بهيدي الأوضاع والظروف الصعبة فينا نقول إنو النزلاء الموقوفين نالوا عقوبتهم. وبقاؤهم داخل النظارة لا يعيد تأهيلهم بل يفاقم نظرتهم السلبية إلى نظام العدالة» الذي يعدّ دائرة متكاملة، تبدأ من التوقيف مروراً بالمحاكمة ووصولاً إلى العقوبة التي يفترض أن تكون إصلاحية. ولكل مرحلة قوانينها ومعاييرها التي تُطبّق لحماية مرتكب الجريمة وإعادة تأهيله ما يؤدي إلى حماية المجتمع.

توقيف احتياطي أم تأديبي؟
يتحدث أحد المحامين، وهو وكيل موقوف في أحد المخافر عن تحويل التوقيف الاحتياطي إلى توقيف تأديبي يطاول الموقوف وعائلته، متسائلاً عن هدف نقل الموقوف من محافظة إلى أخرى «بيبرموا فيه لبنان كلّه». وهذا الإجراء وإن كان قانونياً، يشكل في هذه الظروف الصعبة وارتفاع كلفة النقل نوعاً من العذاب والمعاناة للموقوف وأهله.

(هيثم الموسوي)


الرشى مقابل الكرامة
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية أصبح تأمين أساسيات الموقوف والنزيل داخل المخافر والنظارات في غاية الصعوبة، ما يفتح الباب، وفق أحد المحامين، إلى القيام بما يخالف ضميره وقناعاته من أجل الحفاظ على كرامة الموقوف. الرشى من أجل تأمين الطعام وأدوات النظافة والأدوية والفراش النظيف، ولتسريع إجراءات المحاكمة أو نقل موكله من مكان إلى آخر للحفاظ على صحته وحمايته من مخاطر الحجز في أماكن تتضمّن بيئة قد لا تكون مناسبة له. كون النظارات، يحتجز داخلها كل المتّهمين على اختلاف جرائمهم ونسب تورطهم، فيجتمع من أوقف بسبب حادث سير مع تاجر مخدرات أو مغتصب.

نظارات بلا قانون
تعتمد الضابطة العدلية قرارات ومذكرات صادرة للسجون، لعدم وجود أي مرسوم أو قانون لأماكن الاحتجاز من نظارات ومخافر. فينتظر الضباط العدليون مذكرات من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، لكنها تبقى مذكرات وليست قانوناً يرعى وينظّم أماكن الاحتجاز. إذ صدرت مذكرة موجهة للسجون رقم 482 تاريخ 14/06/2023 تضمّنت تخصيص غرفة (المادة 1) من أجل السماح بالاتصال عبر التطبيقات الإلكترونية للموقوفين الذين لم يحظوا بزيارات عائلية منذ ستة أشهر على الأقل (المادة 2)، ويمكن إجراء تلك المكالمة مع ذويهم وأزواجهم وأخواتهم بل حتى مع وكيلهم القانوني (المادة 3).
«الموقوفون الجدد ينامون قرب الحمّام والباقي فوق بعضهم مع رطوبة وحرارة عالية وقذارة»


لماذا لا تطبّق هذه المذكرة على النظارات التي تحوّلت بحكم الأمر الواقع إلى سجون؟ علماً أن بعض المخافر تطبق تلك المذكرة على خلاف أخرى تعتبر أنها غير مشمولة بها. ألا يفترض وضع مرسوم أو قانون يرعى تلك النظارات والمخافر؟ أليس من المفترض معاملة الموقوف لفترة زمنية تتخطى ستة أشهر داخل النظارة أو المخفر، معاملة السجين وتطبيق تلك المذكرة بحقه لتخفيف أعباء ذويهم في الظروف الاقتصادية الصعبة؟

قواعد نيلسون مانديلا والموقوفون
تشمل قواعد نيلسون مانديلا (قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء) قواعد خاصة للسجناء الموقوفين أو المحتجزين رهن المحاكمة، نذكر منها:
• يُفصَل السجناء غير المحكومين عن السجناء المدانين (القاعدة 112).
• ينام كل سجين غير محاكَم في غرفة فردية، ولكن مع مراعاة العادات المحلية المختلفة في ما يتعلق بالمناخ (القاعدة 113).
• يُعطَى السجين غير المحاكَم دائماً فرصةً للعمل، ولكن لا يجوز إجباره عليه. فإذا اختار العمل، وجب أن يتقاضى عليه أجراً (القاعدة 116).
• يُرخَّص لكلّ سجين غير محاكَم بأن يحصل، على نفقته أو نفقة الغير، وفي الحدود المتَّفِقة مع مصلحة إقامة العدل ومع أمن السجن والمحافظة على النظام فيه، على ما يشاء من الكتب والصحف وأدوات الكتابة وغيرها من وسائل قضاء الوقت (القاعدة 117).

عيد: لضرورة إعلان حالة طوارئ لإيجاد حل سريع لمشكلة الاكتظاظ وخصوصاً داخل النظارات


خريطة نظارات قصور العدل
يبلغ عدد النظارات 229 نظارة، من ضمنها 8 نظارات في قصور العدل:
1- بعبدا 2- الجديدة 3- بيروت 4- زحلة 5- بعلبك 6- طرابلس 7- صيدا 8- النبطية.
المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية:
1- لكل فرد حق في الحرية وفي الأمان على شخصه. ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينصّ عليها القانون وطبقاً للإجراء المقرر فيه.
2- يتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه كما يتوجب إبلاغه سريعاً بأي تهمة توجه إليه.
3- يقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية، سريعاً، إلى أحد القضاة أو أحد الموظفين المخولين قانوناً مباشرة وظائف قضائية، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه. ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة، ولكن من الجائز تعليق الإفراج عنهم على ضمانات لكفالة حضورهم المحاكمة في أي مرحلة أخرى من مراحل الإجراءات القضائية، ولكفالة تنفيذ الحكم عند الاقتضاء.
4- لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
5- لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض.



لجنة السجون ليست دولة
يتحدث رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين، المحامي جوزيف عيد، عن نظارات العدليات المعدّة للتوقيف الاحتياطي البسيط، فأصبحت اليوم تستقبل عدداً كبيراً من النزلاء لفترات زمنية غير محددة. ويعود ذلك، وفق عيد، لاعتكاف القضاء وبطء العملية القضائية وعدم سعة السجون، فتحولت النظارات داخل قصور العدل سجوناً غير مؤهلة أمنياً ولا معيشياً ولا استشفائياً، الأمر الذي «يؤدي إلى حالات تمرّد وفرار شاهدنا العديد منها». وينبه عيد إلى أن «النظارات كما السجون قنبلة موقوتة، إذا لم تعالج المشكلة بأسرع وقت. وينبغي إعلان حالة طوارئ قضائية بالتكامل مع القضاء وقوى الأمن للضغط على الحكومة والمجلس النيابي لإيجاد حل سريع لمشكلة الاكتظاظ خصوصاً داخل النظارات. فالنظارة التي تتسع مثلاً لـ15 شخصاً يوجد فيها اليوم حوالي الـ40». والمعاناة نفسها داخل السجون والمخافر والنظارات «انقطاع متواصل للتيار الكهربائي. والنظافة شبه معدومة، والاكتظاظ طبعاً».


وفي ما يتعلق بالظروف الصحية في النظارات، يشير عيد إلى أن حالات عديدة من الجَرَب والأمراض المعدية. ويعود تفشّيها لعدم توفر الأطباء للمعاينة بسبب أجورهم المتدنية. كما أعلنت المستشفيات عدم قدرتها على استقبال السجناء المرضى بسبب الوضع المالي السيّئ للدولة، و«نناشد منظمة الصليب الأحمر الدولي ومنظمة الصحة الدولية والجمعيات المسارعة لإنشاء مستشفيات ميدانية وعدم الاكتفاء بالتقارير فقط، وإلا فإننا قادمون على كارثة إنسانية». (راجع «القوس»، 12 آب 2023، «الدولة لا تسدّد كلفة الطبابة في السجون»).
يلفت رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين إلى أن النقابة تساهم في تأمين المستلزمات الأساسية من مواد التنظيف وطعام ومياه خصوصاً خلال المناسبات، «وهناك تنسيق كامل مع القوى الأمنية لمتابعة أوضاع النظارات. أما الموقوف الذي لم يتعيّن له أي محامٍ فنقابة المحامين تقوم بواجبها بتعيين محامٍ عبر المعونة القضائية. كما تقوم النقابة بدفع الغرامات البسيطة للمحكومين عبر الهبات التي تأتي لنقابة المحامين، وبإصلاح آليات سَوق الموقوفين. كذلك تستعين بأطباء نقابة المحامين لمعاينة حالات خطرة وطارئة». ويخلص عيد إلى «أننا وحدنا ما منكفّي. نحنا مش دولة».


أحنّ إلى وجه أمّي
يشكو العديد من الموقوفين في المخافر من عدم رؤية أهاليهم بسبب وجودهم داخل نظارات تفتقر لأماكن المواجهة. وتستقبل أغلبية المخافر الموقوفين داخل غرفة ذات باب حديدي مع شباك صغير، تحصل من خلاله المواجهة بين الموقوف وأهله مع تعذّر رؤية وجوه بعضهم بعضاً. وتضيف بعض المراكز، بحجة الوضع الأمني، زجاجاً إلى الشباك وقضبانه. ويجري التواصل بين الموقوف وزوّاره، في أحد المخافر، عبر جهاز اتصال داخلي من دون مواجهتهم. قد يكون هذا الأمر مقبولاً في حال الالتزام بمدة التوقيف القانونية، أما أن تتجاوز هذه المدة الستة أشهر أو السنة فنحن أمام انتهاك لحقوق المحتجز وتعذيب نفسي لشخص لم تثبت إدانته بعد.