في 15 تموز 2014، اجتمع الوزير نهاد المشنوق مع رئيس مجلس بلدية بيروت برئاسة بلال حمد الذي قدّم مساهمة بمبلغ مليارَي ليرة لإعادة تأهيل السجون. وقال حمد بعد اللقاء إن المجلس البلدي رأى أن أهداف الجمعية تتناسب مع أهداف بلدية بيروت لجهة حماية المجتمع من الجريمة وتأهيل السجون وتدريب السجناء ليكونوا جاهزين للانخراط في المجتمع في الحياة الجديدة بعد الخروج من السجن (وفق بيان على موقع وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية). ليقوم وزير الداخلية «رئيس الجمعية الخاصة»، بالتوقيع على معاملة موضوعها: «إعطاء الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون مساهمة مالية دعماً لأنشطتها/ بلدية بيروت» بتاريخ 31 كانون الأول 2014. بالتكافل مع محافظ مدينة بيروت القاضي زياد شبيب الذي وقّع بالتاريخ نفسه «مع الموافقة على الصرف». وبهذا يكون الوزير قد تبرّع لجمعية خيرية يترأسها من أموال الدولة بإيعاز منه. لكن قبل كل ذلك نسأل: هل صُرفت الأموال التي جمعتها الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون على تحسين أوضاع السجون فعلاً والتخفيف من معاناة السجناء وذويهم والحراس؟نعرض في ما يلي تسلسل أحداث ووقائع موثّقة، تفتح آفاقاً للسجناء المحكومين والموقوفين، الذين يعيشون على أمل بإصلاح وتأهيل السجون وأماكن التوقيف، وتكريس حقّهم في أن يعاملوا بما يلزم من الاحترام لكرامتهم وقيمتهم المتأصّلة كبشر (تطبيقاً لقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء «قواعد مانديلا»)، للمطالبة بحقوقهم من الأموال المخصصة لهم من الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون. ولربما تجيب أيضاً غالبية اللبنانيين عن مصير أموالهم.

غاية شريفة أو استغلال؟
تأسست جمعية باسم: «الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون» مركزها: بيروت، بناء على المرسوم الرقم 11217 تاريخ: 15/2/2014، وحازت على علم وخبر الرقم 448 تاريخ: 22/3/2014، نُشر العلم والخبر في العدد 13 من الجريدة الرسمية بتاريخ 27/3/2014.
جاء في المادة الأولى من النص، أسماء المؤسسين كالتالي:
- وزارة الداخلية والبلديات، ممثلة بشخص الوزير.
- الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ممثلة بشخص الأمين العام.
- المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ممثلة بشخص المدير العام.
- المديرية العامة للأمن العام، ممثلة بشخص المدير العام.
- ممثل الجمعية تجاه الحكومة: وزير الداخلية والبلديات.
كما ذُكرت في المادة عينها أهداف هذه الجمعية كالآتي:
1- العمل على تأهيل السجون اللبنانية وتحسين وضعها.
2- تأمين الإرشاد الصحي والاجتماعي للسجناء ومساعدتهم معنوياً وتوفير التعليم والتدريب لهم من خلال إقامة دورات محو أمية وأشغال يدوية وأعمال حرفية داخل السجون.
3- السعي إلى تعديل القوانين المتعلقة بالسجون والسجناء والشؤون الأمنية والعمل على تطوير النظم العقابية في لبنان لتتوافق مع الاتفاقات الدولية لمنع التعذيب.
كذلك كرّست هذه المادة الحق للجمعية بتلقي الهبات والمساعدات في سبيل تحقيق أهدافها.
أقدمت الجمعية المذكورة أعلاه على فتح حساب في بنك بيبلوس. لتقوم مسؤولة الامتثال سيلفي حويك، بحسب الوثائق التي نشرتها بركات، بإرسال بريد إلكتروني بتاريخ 3 نيسان 2014 لمساعد المدير العام ورئيس قسم المالية آلان ونّا لطلب الموافقة على فتح هذا الحساب، مع الإشارة له بأن يأخذ في الحسبان أن هذا الحساب مرتبط بالحكومة اللبنانية ومصنّف على أنه خاص بأشخاص مكشوفين سياسياً (PEP). وهذه الحالة تحتاج إلى دراسه لمعرفة ما إذا كان هذا الحساب سيؤثر على سمعة المصرف ويلحق به المخاطر. لكن الغريب بالأمر أن رد ونّا جاء بعد دقيقتين بالموافقة على فتح الحساب في أسرع وقت ممكن.
أراد وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق حينها، وفق تصريحات له، تأسيس الجمعية بصفته الوزارية، بحيث تنتقل الجمعية بمهامها إلى وزير الداخلية الذي يأتي بعده. لكن تبيّن في ما بعد أنّ هذه الجمعية خارجة على القانون وفق قانون تأسيس الجمعيات الذي يمنع مثل هذا الأمر، ولا يمكن أن تبقى قائمة ولا أن يستمر حسابها المصرفي بأسماء أشخاص لا يملكون شخصية معنوية منفصلة عن شخصية الدولة. (راجع «الأخبار»، 3 أيلول 2014، «الدولة الموازية تريد إصلاح السجون»). وصدر القرار الرقم 1256 تاريخ: 26/6/2014، القاضي بحل الجمعية المسمّاة: «الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون» ونُشر في العدد 29 من الجريدة الرسمية بتاريخ: 10/7/2014.
استعان الوزير المشنوق بعد ذلك، على ما يبدو، بابنته المحامية ثريا وبعض موظفي بنك بيبلوس، لاعتماد ديباجة جديدة لإمكانية فتح حساب ثانٍ للجمعية بأسماء الأفراد الحقيقيين أي بصفة شخصية حتى لا يضطروا إلى فتح الحساب في مصرف لبنان وكي لا تكون الجمعية خاصة بالدولة وخاضعة للرقابة المباشرة.
فتأسست الجمعية من جديد باسم: «الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون Lebanese Prisons Reform Association) (LPRA مركزها: بيروت». بموجب علم وخبر الرقم 1258 تاريخ: 18/6/2014، ونُشر العلم والخبر في العدد نفسه من الجريدة الرسمية مع قرار حلّ الجمعية الأولى بتاريخ: 10/7/2014.
وجاءت أسماء المؤسسين في المادة الأولى كالتالي:
- الوزير نهاد المشنوق.
- د. فرانسوا باسيل.
- غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، ممثلة بشخص رئيسها الأستاذ محمد شقير.
- ممثل الجمعية تجاه الحكومة: الأستاذ محمد شقير.
كما أضيف إلى الأهداف في نص المادة الأولى من الجمعية الأولى المحلولة، ثلاثة أهداف جديدة:
- تأمين استشاريين تقنيين لبنانيين وأجانب لإعداد دراسات وتنفيذ مشاريع تستلزمها احتياجات السجون وإدارات وزارة الداخلية والبلديات.
- المساعدة والرعاية والمساهمة في معالجة آفات السجون والمساجين.
- تعمل الجمعية من أجل تحقيق نشاطاتها وأهدافها إمّا مباشرة، أو عن طريق التعاون والتنسيق مع المؤسسات الرسمية والخاصة، والمنظمات غير الحكومية، سواء في لبنان أو الخارج أو عن طريق خلق مؤسسات أو مشاريع اجتماعية جديدة.
كذلك كرّست هذه المادة الحق للجمعية بامتلاك العقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة، والتصرف بها بجميع الطرق القانونية وإجراء جميع الأعمال المالية والاقتصادية والقانونية من دون استثناء أو تمييز بين الأعمال الإدارية والتصرفية.
وفي اليوم التالي، بتاريخ 11/7/2014، وُزّعت المهام على أعضاء الهيئة الإدارية الأولى للجمعية، في الإفادة الموقعة من المدير العام للشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية والبلديات فاتن يونس، على الشكل الآتي:
- الوزير نهاد المشنوق، رئيساً.
- الدكتور فرنسوا باسيل، نائباً للرئيس. (كان رئيساً لجمعية المصارف آنذاك).
- رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، أميناً للسر وممثلاً عن للجمعية تجاه الحكومة. (لم يكن وزيراً بعد).
- الرئيس لمجلس القضاء الأعلى السابق القاضي جان فهد، عضواً.
- المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود، عضواً.
- الأمين العام لمجلس الوزراء السابق الدكتور سهيل بوجي، عضواً.
- المدير العام للأمن العام السابق اللواء عباس إبراهيم، عضواً.
- المدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق اللواء إبراهيم بصبوص، عضواً وأميناً للصندوق.
وعليه فُتح حساب جديد للجمعية «الجديدة» في بنك بيبلوس حمل الرقم: 4856995.
فهل تحقّق أي من الأهداف الستة المنصوص عليها لهذه الجمعية؟ وهل تُرجمت الرؤية المشتركة لمجلس بلدية بيروت مع رئيس الجمعية لتمكين التنفيذ الفعّال لتحقيق أهدافها؟ للاطلاع أكثر على مصير هذه الأهداف وواقع السجون في لبنان اليوم: (راجع «القوس»، 18 آذار 2023، «حاجات للبقاء»).

باب التبرّع مفتوح
في مداخلة هاتفية له في أحد البرامج التلفزيونية، في آذار 2020، قال المشنوق: «الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون، بعدها موجودة وهي جمعية خاصة تشكّلت أيام وجودي بوزارة الداخلية. والليلة بعد التشاور مع اللواء بصبوص (..) أخدنا قرار بأن نتبرع بمليون دولار لمراكز الاحتجاز أو النظارات لتوسيعها وتعقيمها وإنشاء مراكز جديدة منعاً للاكتظاظ. ومليار ليرة لبنانية خلال أسبوع لنفس الهدف (..) وباقي الفلوس المتوفرة رح نستعملها إن شاء الله بدفع الكفالات أو الغرامات عن السجناء يلي بعدهم موجودين بالسجن بس لأن عليهم غرامات». ذكّر المشنوق المشاهدين على الهواء مباشرة بأن الجمعية الخاصة ما تزال موجودة. لكن، لو أنّ الهبات المقدّمة من تلك الجمعية قد أحدثت فرقاً كبيراً في مجال تأهيل السجون، هذا إن قُدّمت فعلاً للمستفيد الأول بالطرق السليمة، هل كان عليه تذكير الناس بها؟ لماذا أعاد إحياء اسمها بعد غياب؟
في مقابلة تلفزيونية تلت مداخلته تلك، صرّح المشنوق بأن هذه التبرعات جُمعت بجهد كبير خلال ثلاث سنوات من جمعية المصارف، وغرفة التجارة في بيروت ومن أصدقاء لبنانيين من داخل لبنان ومن خارجه. ليبلغ المجموع النهائي حوالي 12 مليون دولار. طرحت بركات تساؤلات هنا حول السبب الذي دفع رئيس جمعية المصارف السابق فرنسوا باسيل لإعطاء الموافقة لإيداع أو تبرّع من جمعية المصارف، أي من أموال المودعين، إلى حساب جمعية تأهيل السجون. كذلك تبرّعت مؤسسات وإدارات رسمية وخاصة لحساب الجمعية، أي إنه من المال العام اللبناني أو على حساب الخزينة.
تبرّع الوزير من أموال الدولة إلى جمعية خيرية لتأهيل السجون يترأسها


يُذكر أن الجمعية، كما نقلت وسائل إعلامية، قد تبرّعت بمبلغ 500 ألف دولار أميركي لمركز أمني ومركز احتجاز في صيدا، افتُتح بحضور النائبة بهية الحريري. وبمبلغ مليون دولار مساهمة منها في إنجاز مبنى الاحتجاز الحديث في منطقة العدلية الذي افتتحه المشنوق. وبمبلغ 250 ألف دولار أميركي لإنشاء مركز احتجاز لصالح المحكمة العسكرية، في ثكنة الأمير بشير. كما عدّد المشنوق التصليحات التي قامت بها الجمعية في سجن رومية بعد العملية الأمنية التي نفّذتها شعبة المعلومات لإنهاء تمرّد سجناء المبنى «ب» (عام 2015)، لكنه لم يكن دقيقاً في تحديد المبلغ المدفوع لأجل هذه التصليحات قائلاً: «كلّفت يمكن 400 أو 500 ألف دولار». وأشار أيضاً إلى إنفاق «تقريباً 5 ملايين دولار» لمجلس الإنماء والإعمار، مساهمة ببناء سجن مجدليا (محافظة لبنان الشمالي، قضاء المنية - الضنية)، إذ استطاعت الجمعية، بالتعاون مع الرئيس تمام سلام آنذاك والوزير علي حسن خليل، بتأمين 50 مليون دولار أميركي من الدولة اللبنانية لبنائه.
وبالعودة إلى أيلول عام 2017، حيث كُلّف مجلس الإنماء والإعمار بإجراء مناقصة تلزيم إنشاء «سجن نموذجي في مجدليا»، تلقّى المجلس كتاباً من المشنوق المؤرخ في 27/9/2017، يتضمّن: «نظراً إلى ضيق الوقت والحاجة الملحّة إلى الإسراع في بناء السجن (..) سيّما وأن الاكتظاظ لدى الموقوفين والمحكومين في السجون اللبنانية لم يعد يُحتمل (..) فإن المراجعات من السلطات السياسية المتنوعة تدفعنا إلى التمنّي عليكم النظر باعتماد نتائج المناقصة السابقة». فلمصلحة من جاء ذلك الكتاب؟ ومن كان المستفيد من تلك المناقصة؟ (راجع «الأخبار»، 4 تشرين الأول 2017، «سجن مجدليا: الفضيحة مستمرة!»). وبتاريخ 2 كانون الثاني 2020، غرّدت وزيرة الداخلية آنذاك ريا الحسن على حسابها الرسمي على تويتر قائلة: «أُعلن أننا راسلنا مجلس الإنماء والإعمار لإبلاغ المتعهد بالمباشرة بإنشاء سجن مجدليا». رغم كل تلك التصريحات وتجميع الأموال اللازمة والإفصاح عن التبرّعات والحاجة البالغة الشدّة للسجن، لا يزال تنفيذ مشروع بناء هذا السجن متوقفاً. ألا يستدعي ذلك فتح تحقيق قضائي واستدعاء كل من له علاقة بالأمر إلى دوائر التحقيق؟



نظارات الأجانب أَولى من السجون؟
تشير بركات إلى شيك صُرف لصالح المديرية العامة للأمن العام بتاريخ 13/8/2014 بقيمة 500 ألف دولار أميركي، غير مسطّر (chèque non barré)، أي إن المبلغ ليس للمستفيد الأول أو أنه قد قُبض نقداً، علماً أن هذا الأمر مخالف لطريقة عمل فرع بنك بيبلوس في حال كان الدفع لجهة رسمية. وفي بيان صدر عن مكتب شؤون الإعلام في المديرية العامة للأمن العام في حزيران المنصرم رداً على كلام بركات جاء فيه: «تم تداول فيديو مصوّر على مواقع التواصل الاجتماعي، ورد في مقطع منه أن الأمن العام قبض من «الجمعية اللبنانية لتأهيل السجون والنظارات»، شيكاً مصرفياً بقيمة 500 ألف دولار أميركي..». وأضاف أن «المديرية العامة للأمن العام استلمت من الجمعية المذكورة ثلاثة شيكات مصرفية، وليس شيكاً واحداً كما ورد في الفيديو، وأن قيمة الشيكات الثلاثة هي مليون ومئة ألف دولار، وليس فقط خمسماية ألف دولار، وقد أودعت الأموال في حساب المديرية وفقاً للأصول». وأن المديرية قامت بصرف هذه الهبة تنفيذاً لاستراتيجية تحديث وتأهيل دوائر ومراكز الأمن العام، ومنها «مركز التوقيف الاحتياطي» (نظارة الأمن العام).
علماً أن المادة الأولى من المرسوم رقم 14310/49 «تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم»، تنصّ على أن السجون تخضع لسلطة وزير الداخلية الذي يكلّف المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إدارة السجون وحراستها. وبالتالي من المستغرب عدم إحالة تلك الهبة إلى حساب مخصّص لوزارة الداخلية أو للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والاكتفاء بإحالة الأموال إلى المديرية العامة للأمن العام التي تدير وتحرس نظارات توقيف مؤقت محصورة بغالبيتها بالأجانب.


استغلال السلطة..
عُرّف الفساد في المادة الأولى من القانون الرقم 175 تاريخ: 8/5/2020، «مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد»، على أنه «استغلال السلطة أو الوظيفة أو العمل المتصل بالمال العام بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير مشروعة لنفسه أو لغيره، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة«.
ووفق نص المادة الثالثة من القانون نفسه، فإن الأفعال التالية تُعدّ جرائم فساد:
1- نيل الالتزامات أو سوء تنفيذها أو الاستحصال على الرخص من أحد أشخاص الحق العام جلباً للمنفعة الخاصة إذا حصل أي منها خلافاً للقانون.
2- استخدام الأموال العامة، ووسائل الدولة وسائر أشخاص الحق العام، خلافاً للقانون جلباً لمنفعة خاصة.
3- لا يشترط أن تحصل المنفعة الخاصة التي تتأتّى عن جرائم الفساد (..) بل يمكن أن تنشأ عن الاستفادة من المشاريع المنوي تنفيذها وإن لم تُنفّذ.