لو كان النظام التربوي سليماً في لبنان، هل كنا بحاجة إلى الحديث عن فلتان الضواحي وازدياد معدلات الجريمة؟ هل كنا سنشهد هذا الاكتظاظ في السجون والنسبة العالية من الأحداث المتسرّبين من المدارس القابعين في مراكز التوقيف؟«إذا كانت أزمة التربية هي أزمة الحضارة بكاملها، فإن التربية نفسها مسؤولة كل المسؤولية عن تلك الأزمة، وأن من شأن الحل أن يتأتّى منها إلى حدّ كبير». هكذا عبّر الفيلسوف الفرنسي أوليفييه ريبول (1925 - 1992) عن الدور الأساس للتربية في حل الأزمات الأمنية والأخلاقية التي تشهدها المجتمعات، ويشهدها لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى. فإلى متى هذا الإهمال للمؤسسات التربوية والكوادر التعليمية؟
تقوم نظم التعليم والأسس الوطنية لأي بلد على العناصر الأكثر أهمية، وهي الطلاب. إذ تلتزم المدرسة، باعتبارها أول وأهم مؤسسة تعليمية في كل دولة، بتزويدهم بالاستعدادات اللازمة والمفيدة، من خلال رفع مستوى المعرفة والوعي لديهم، لحمايتهم من السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، وضمان عدم انخراطهم في البيئات غير الصحية، وذلك لاستدامة الأمن وتطوّر البلاد. إذا لم تتخذ الدولة، اليوم، التدابير اللازمة لمنع ومكافحة وتقليل الأضرار الاجتماعية الناجمة عن خلل في الإدارة التربوية والعدالة الاجتماعية والمنسحبة على جميع الإدارات العامة، فسنخسر بلا أدنى شك رأس المال البشري والاجتماعي والأخلاقي، المرتكز على الطلاب والأجيال الجديدة


العدالة الاجتماعية في التعليم والتربية يُفترض أن تؤخذ في الاعتبار في مرحلة الطفولة المبكرة، كرؤية وفلسفة يمكن أن تقود المقاربات التربوية. ومن الأمور المركزية في ذلك، التركيز على إنشاء مساحات أكثر إنصافاً وأخلاقاً حيث يمكن لجميع الأطفال المشاركة والتواصل بعضهم ببعض ومع مجتمعاتهم بطرق مدروسة رحيمة وعادلة.

(أنجيل بوليغان)

تكمن أهمية العدالة الاجتماعية بأنها أُسس بعيدة المدى، وذات صلة بالسياقات التعليمية وما يليها، وهي جزء كبير من الحياة التي نعيشها جميعاً. وإنشاء رؤية للعدالة الاجتماعية والحفاظ عليها وتطبيقها يمكن أن يخدم المعلّمين في فهم جميع فروقات الأطفال ورعايتهم ودعمهم وإنشاء خطط لهم للتعلّم والازدهار. تكريس مفهوم العدالة مهم بشكل خاص للمعلّمين الذين قد يتعاملون مع قضايا الإنصاف أو الظلم في مرحلة الطفولة المبكرة، والتي قد تشمل أسئلة الأطفال وفضولهم للمعرفة والاستكشاف، أو للعمل مع أفراد الأسرة لمتابعة الطالب، أو التعامل مع القضايا الناشئة في المركز أو المدرسة أو المجتمع الأوسع.
لا تستطيع المدارس وحدها تغيير العوامل الهيكلية التي تؤدي إلى سوء توزيع الثروة ولا يمكنها القضاء على العنصرية والتمييز على أساس الجنس وأشكال أخرى من الإقصاء الاجتماعي والقمع الثقافي. ومع ذلك، ووفقاً لـبيتر ماكينيرني في بحثه «إعادة اكتشاف خطابات العدالة الاجتماعية: تحويل الأمل إلى واقع عملي» (2012)، «يمكن للمدرّسين جنباً إلى جنب مع أولياء الأمور ونقابات المعلّمين والجمعيات المجتمعية أن يلعبوا دوراً نشطاً في الطعن في سياسات وممارسات التعليم غير العادلة، والدعوة إلى نظام تمويل أكثر عدلاً للمدارس المحرومة، وتطوير مناهج أكثر عدلاً اجتماعياً وتعزيز الشعور بالتفاؤل والانتماء والثقة بين الطلاب».

العدل والإنصاف وفقاً لمزاج المعلّم
في دراسة حملت عنوان: «استكشاف عمل العدالة الاجتماعية لمعلّمي الطفولة المبكرة» أجراها باحثون في نُظم التعليم في أستراليا عام 2016، هدفت إلى إبراز أهمية السنوات الأولى من حياة الطفل لتعلّمه وتطوّره، وضرورة أن يكون معلّمو الطفولة المبكرة مهنيين ماهرين يتمتّعون بفهم عميق للعدالة الاجتماعية ويؤمنون بقدرة جميع الأطفال على النجاح رغم ظروف حياتهم أو بيئاتهم أو قدراتهم المختلفة. واستندت الدراسة إلى دليل واضح، نتج عن دراسات سابقة، بأن السنوات الأولى من حياة الأطفال لها تأثير عميق على نموّهم ورفاههم وتعلمهم، والاستثمار الجيّد في هذه السنوات يُخلّف نتائج تدوم مدى الحياة.
«منعرف إنك شاطرة، بس كرمال الطلاب الباقيين مضطرين نضربك معهم»، ترنّ هذه الجملة في رأس سمر (30 عاماً) عندما يُذكر أمامها مفهوم «العدل والإنصاف». مرّ على الحادثة أكثر من عشرين عاماً ولكنها محفورة في ذاكرتها: «كنت عاقلة كتير والأولى عالصف وأوّل مرة بنسى أعمل تمارين لمادة التربية الوطنية، وقّفوني بالملعب حد المشاغبين والمهملين وبلّش الناظر ومعلمة التربية ضرب فينا بالمسطرة». وتضيف: «أي عدالة؟ نسفولي العدل والإنصاف من صغري، ما كان في عدل، لا بهيدي الحادثة ولا بغيرها بالسنين يلّي بعدها، وعندي نقمة كبيرة على نظام التعليم». وتسأل سمر التي حفظت عناوين بعض الدروس في محاور كتاب التربية الوطنية والتنشئة المدنية للسنة الثالثة من التعليم الأساسي (من حقي الرعاية والحماية، والحياة المشتركة مع الرفاق، وأشارك الآخرين أفراحهم وأحزانهم): «الحماية بتكون بالضرب؟ ومشاركة رفاقي المهملين بالعقاب بميزان عدل مكسور؟ وهيك بتِكمَل مواساتي لهم بالحزن؟» تنهي سمر بأنه لا يزال الخوف من استمرار هذا الأسلوب الرجعي في التربية يرافقها وتحرص على ألّا ينسى ابنها فروضه المدرسية كي لا يتعرّض لأي نوع من العنف «حسب مزاج المعلمة، يا بتكون رايقة أو بتفش خلقها فيه، الناس جنّت بهالوضع وما عدنا نتوقع تصرفاتهم».
وفي دراسة أجرتها باحثة في جامعة أم القرى - السعودية عام 2016، تحت عنوان: «درجة تطبيق المدرسة لقيمة العدل كما يراها طلاب المرحلة الثانوية بمكة المكرمة»، هدفت إلى توضيح مكانة قيمة العدل في التربية والكشف عن درجة تطبيقه. أشارت الباحثة، وفق تحليلها، إلى أنه على رغم أن الإجابة عن محور تطبيق المدير لقيمة العدل مع الطلاب قد تركزت في الدرجة المتوسطة، إلا أن هذا الأمر لا يعني أن الإدارة المدرسية تجتهد فعلاً في تطبيق قيمة العدل وتحرص عليه. فقد أتت النتيجة بالنسبة إلى محور تطبيق المعلّم بأن هناك نسبة من عدم حرص بعض المعلّمين على العدل بتطبيق مبدأ الثواب والعقاب بين الطلاب. كما أن بعضهم لا يعطي جميع الطلاب فرصاً متساوية للمشاركة في حرية التعبير عن آرائهم عند طرح أي قضية للمناقشة. وخلُصت الدراسة إلى أن تقويم بعض المعلّمين للطلاب من حيث وضع الأسئلة ومراعاتهم لفروقات الطلاب الفردية عند وضعها وتصحيح الإجابات تفتقر إلى الموضوعية، وهذا ما يُحدث خللاً في تحقيق العدل بين الطلاب. وتعزو الباحثة ذلك إلى أن بعض المعلمين لا يزالون يستخدمون الطرق التقليدية للتقويم المرتكزة على قياس مهارات الحفظ والتذكر من دون الاهتمام بمهارات التحليل والنقد والإبداع، مما يُشعر الطلاب بالظلم.
«إنتو كلكم فُقرا، وإلا ليش أهلكم حطّوكم بمدرسة رسمية»، تروي رلى (21 عاماً) ما قالته لها مدرّسة مادة التربية قبل سبعة أعوام، الأمر الذي خلق لديها «عقدة نقص، مع إنو ما كنا فقرا، بس ضليت حاسة فيها لحد ما سجّلني بيّي بآخر سنتين ثانوي بمدرسة خاصة». تشرح رلى كيف أصبحت هذه الكلمات من مدرّسة «التربية» عبئاً عليها، جعلها غير متقبّلة للواقع الذي تعيشه «كنت ضل إبكي وقول ما في عدل، وطلع عنجد ما في عدل، لا بالمدرسة ولا بالجامعة».
أمّا بالنسبة لهادي (9 أعوام)، فإن جميع المعلّمين غير عادلين «بيحبّوا الشاطرين بس، وبس إرفع إيدي ما بيشوفوني، طب أنا بقلهم يساعدوني بس ما بدهم». بالنسبة إلى هادي فإن المدرسة باتت مكاناً غير مُفرح، وهو لا يزال في بداية مشواره الدراسي، فعلى من تقع المسؤولية؟

دور المناهج التربوية
«تنبع أهمية المناهج من أهمية وحجم الآثار المترتّبة أو الناتجة عن وجودها، حيث يتجلّى ذلك وينعكس على المؤسسات التعليميّة بكل عناصرها (المعلّم، والطلاب، والمنهج، والبيئية التعليمية..) بشكل مباشر، وعلى المجتمع بكل مكوّناته (الأفراد، والمؤسسات، والأُسر الاجتماعية، والدولة..)»، كما يشير مدير تطوير المناهج في مركز الأبحاث والدراسات التربويّة الأستاذ الجامعي عباس كنعان، في أطروحته حول «التربية الأخلاقية وبناء المنهج التعليمي في لبنان» (2016). ويضيف أن المنهج «يمكن أن يُتصوّر على مستوى السلوك الأخلاقي، والوعي العام، والتقدّم الحاصل في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية». كما يلفت إلى أن المناهج التربوية عامةً، والأخلاقية خاصةً، تكشف «عن الفلسفة القَيميّة التي يحملها المجتمع التي صاغها (..) وما يختزنه ذلك المجتمع الأخلاقي من ثروات ثقافية، وفكرية، وتربوية واجتماعية، تُعبّر عن العمق الأخلاقي لأي مجتمع من المجتمعات البشرية، ومدى اهتمامها بالحصانة الأخلاقية لأفرادها، بكل مكوّناته البشرية، ومستوياتها العمرية».
وحول أهمية تعديل المناهج التربوية وتطويرها وفق النظم الأخلاقية لقدرتها على مواكبة الضغوط الخارجية والداخلية للفرد، يؤكد كنعان أن «وجود المنهج التعليمي المُشبع بالقيَم الأخلاقية» يُمَكِّن الإدارات التربوية من متابعة المتغيّرات السلوكية الأخلاقية لدى المتعلّمين ومواكبتها. وبالتالي «يُصبح المنهج عاملاً ناظماً للقيَم الأخلاقية والسلوكية في المجتمعات البشرية، ومقوّماً لها». وهذا بدوره سينعكس إيجاباً على الحياة الفردية والمجتمعية، «كون المنهج له علاقة وثيقة بالحياة». وتجدر الإشارة إلى أن المتابعة تُعدّ إجراءً مهماً عندما يتعلق الأمر بتحديد الطلاب المتعثّرين المعرضين لخطر التسرّب أو الجنوح.
وفي مقابلة مع «القوس» يشير كنعان إلى أن العدالة في المناهج هي «قيمة إنسانية أخلاقية جوهرية تنحكم إليها باقي القيَم الأخلاقية، وفي حال أردنا إنشاء تراتبية أو منظومة للقيَم، ستكون العدالة على رأسها».
من جهة أخرى، يؤكد أن «العدالة هي طرح أخلاقي ثابت وموجود في الديانات السماوية كلها على المستوى اللبناني كمكوّنات اجتماعية تلتزم بدياناتها، فتشترك العدالة في الطروحات القَيميّة الدينيّة للمجتمع اللبناني على المستوى المكوّن أو الانتماء الديني». مبيّناً أن الدستور اللبناني والمنهج التعليمي (على مستوى الغايات) قد صرّحا عن هذا الطرح، لكن «إشكالية المنهج التعليمي تكمن في التطبيقات التي لها علاقة بالحلقات التعليمية، إذ إن هذه القيمة لم تظهر بالشكل الكافي في المنهج التعليمي ممّا أوجد التباسات مفهومية أو سلوكية عند المتعلّمين».
هادي (9 أعوام): بيحبّوا الشاطرين بس، وبس إرفع إيدي ما بيشوفوني، طب أنا بقلهم يساعدوني بس ما بدهم


بالعودة إلى الأمر الواقع، يُطرح سؤال بديهي: هل التربية الأخلاقية ممكنة؟
يأتي جواب ريبول واضحاً ومختصراً بأن التربية الأخلاقية ليست إلا فرعاً من فروع التربية (أي التنشئة والتنمية والتحسين) التي تتحمّل مسؤوليته الأسرة أولاً والمدرسة ثانياً، ثم تكاملهما معاً. ويقول: «حسبنا أن نُفكّر لكي ندرك أن التربية الأخلاقية ليست في الأساس غير التربية نفسها» (فلسفة التربية، ص. 126).

تلازم العلم والسلوك الأخلاقي
«الحياة التي لا تكون قائمة على المحاسبة والمساءلة في المبادئ والقيَم والأخلاق ليست جديرة بأن تحيا»، تستشهد الاختصاصية في الأخلاقيات الأحيائية والمديرة المؤسِسَة لبرنامج سليم الحص للأخلاقيات الأحيائية والاحتراف في الجامعة الأميركية، تاليا عراوي، بفكرة سقراط التي عدّتها أساس كل ما يتعلّق بالفلسفة والأخلاق. في ورقة بحث نُشرت في الكتاب السنوي الثالث للهيئة اللبنانية للعلوم التربوية عام 2001، تحت محور «تجارب»، تشرح عراوي تفاصيل تجربتها في تدريس الفلسفة الأخلاقية في مدرسة «الانترناشيونال كولدج». تعرض الورقة لمحة موجزة عن أهمية دور الفلسفة الأخلاقية في التربية وكيفية تطبيقها على أرض الواقع. وحول تجربتها تقول عراوي: «تمحورت الفكرة الأساسية في هذه التجربة حول آلية استخراج القيَم من المناهج، فكان الهاجس الذي يشغلني هو تحديد نقاط معيّنة أستطيع بها الوَصل بين البرنامج المقرّر والقيَم التي أردت استنباطها. وكان تركيزي بشكل خاص على القيَم الأساسية كالصدق والأمانة واحترام الآخر والمسامحة والعمل على تقليص التصرفات غير المسؤولة».

السنوات الأولى من حياة الأطفال لها تأثير عميق على نموّهم ورفاههم وتعلمهم والاستثمار الجيّد في هذه السنوات يُخلّف نتائج تدوم مدى الحياة


من أُسس التربية الرائدة: الحوار البنّاء والجدل الموزون والانفتاح الفكري، كما تشير عراوي، وتضيف أن «للتربية قوة خاصة ومميّزة ترفض بها أسلوب التلقين الببّغائي الآلي، وتنشد أسلوباً تثقيفياً شفّافاً ومرناً مع تكريس جذري للقيَم الأخلاقية بكل ما فيها من تفهّم وقبول للآخر، إذ يصبح التطوّر جوهراً يتدرّج بانتقال متقن من الحيّز الفكري إلى الحيّز العملي، إذ إن الرؤية السليمة تقود إلى ممارسات سليمة». (راجع «القوس»، 27 آب 2022، «مشكلة عدم تقبّل الآخر»)
وطريقة التعليم المثلى بنظر عراوي هي التي «من خلالها تحصل التغيّرات في الأحاسيس أو في الأخلاق أو في التفكير». وتلفت إلى أن «التعليم يساعد على تغيير بعض المشاعر تجاه مسألة ما، كما يساعد على تكوين الشخصية الأخلاقية (Moral Character)».
وأشارت إلى أنه يفترض أن يتخلل كل مقرّر أو برنامج «إشباع للطالب بأفكار العدل والتسامح ومبادىء احترام حقوق الغير واللا عنف وغيرها من الموضوعات الأخلاقية بغية تهذيب شخصيته. فهذه الأمور تبقى راسخة على مرّ الزمن ويكون لها الأثر الأكبر في تصرفاته إذا ينخرط في معترك الحياة مواطناً فعّالاً».



ماذا عن القوانين غير العادلة؟
«تجربتي في تدريس المفاهيم السياسية والقضايا المتعلقة بالدولة أثبتت عمق تفكير الطالب عندما يكون موجّهاً بالاتجاه الصحيح»، تجد عراوي نفسها غير مقتنعة بنظرية الفيلسوف اليوناني أرسطو التي طرحها في بداية كتابه «الأخلاق» حيث قال «إن المواضيع المتعلقة بالأخلاق والسياسة يجب ألّا تُدرّس للطالب الشاب، إذ تنقصه التجربة والاتّزان العاطفي والجدية العميقة». لكن تجربة عراوي خلال ثلاث سنوات كانت إثباتاً واضحاً أن اعتقاد أرسطو ليس في محلّه. فتذكر على سبيل المثال: «مسألة الدولة وواجب احترام قرارات الدولة من أهم المواضيع التي طُرحت ولا زالت تطرح في فلسفة السياسة (Political Philosophy): فهل يجب الانصياع للقانون حتى لو كان ضد قناعات الشخص مثلما حصل مع سقراط؟ أم هل يجب أن يتّبع الإنسان ما يمليه عليه ضميره حتى لو كان مغايراً لقانون الدولة كما في فكر الفيلسوف الأميريكي ثورو (Henry David Thoreau)»؟ يُذكر أن فلسفة ثورو ونظريته حول المقاومة اللا عنفية تجاه القوانين غير العادلة كانت مصدر إلهام لحركة غاندي وكفاح مارتن لوثر كنغ الابن.


تجربة شخصية

15 دقيقة تُحدث فرقاً كبيراً
قد تكون خبرتي في التعليم لا تتعدى السنتين، لكنني حرصت خلال تدريسي لمادة علوم الأحياء في مدرستَين مختلفتَين، على تخصيص وقت مدته 15 دقيقة في بداية كل حصة أتناول فيها حادثة معيّنة حصل فيها سلوك غير أخلاقي وأترك للطلاب، بمختلف أعمارهم ومراحلهم (من الرابع ابتدائي إلى الثاني ثانوي)، حرية التعبير عن نظرتهم تجاه هذا السلوك وكيفية تصويبه (على أن يكون السلوك موافقاً للنمو المعرفي والإدراكي لكل مرحلة عمرية). أجمع الكل -ولا أبالغ في قول «الكل»- على استنكار السلوكيات اللا أخلاقية، وهذا ما يؤكد أن الطلاب رغم خلفياتهم الثقافية والطائفية والمناطقية المختلفة، إلا أنهم في أصل فطرتهم السليمة يعلمون معنى الأخلاق وقادرون على إيجاد حلّ في حال كانوا أمام معضلة أخلاقية، لكن تنقصهم المتابعة الدقيقة والتوجيه السليم في بيئتهم المحيطة، لأن القدرة على التمييز بين الخير والشر فطرية، ووفقاً لـكانط فإن الإنسان قادر بنفسه على أن يبلغ «القانون الأخلاقي» (Moral Law)، لأن هذا القانون هو الضمير الذي أطلق عليه كانط في كتابه «نقد العقل العملي» (1788) اسم «القانون الأخلاقي في داخلي».
مع مرور الوقت، انعكست هذه الدقائق القليلة إيجاباً على طريقة تواصلي مع الطلاب، وبخاصة الذين كانوا موضوعين على اللائحة السوداء أو كما أُطلق عليهم اسم «مش طالع من أمرهم شي»، إذ بدأت تختفي تدريجياً «المشاغبة» أثناء الحصة، ثم انسحب الأمر إلى ارتفاع درجاتهم في اختبارات المادة. كنت أعلم بأن محاولتي هذه قد لا تجدي نفعاً، ولن ترسخ في عقول الطلاب إذا لم يرافقها تشارك مع الزملاء المدرّسين والنظام التعليمي ككل. فطوال ثمانية أشهر كنت أرى نفس الطلاب الذين يتحسّن تحصيلهم العلمي والأخلاقي في مادة علوم الأحياء، تتراجع علاماتهم في مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنية وتسوء سلوكياتهم خلال الحصة. أليس من الأجدر تربية المدرّسين أولاً؟
من هنا، يبرز دور المدرّس أو المربّي الحقيقي، إذ بحسب عراوي «الأخلاق والعلم حقیقتان متلازمتان وحيويّتان. فالعلم دون توجيه أخلاقي عميق يقلب المعرفة البشرية إلى مجموعة رذائل»، وتؤكد ضرورة اهتمام المعنيين بالشأن التربوي بتعليم الأخلاق في المدارس، وتشدّد على قدرة المربّي المؤهّل أخلاقياً على خلق الحوافز الفكرية وابتعاده عن أسلوب التلقين لإجبار الطلاب على الخروج من خمولهم الفكري وتطوير مهاراتهم التحليليّة في إطار علمي أخلاقي.