مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في لبنان، تزداد معاناة المحتجزين داخل السجون اللبنانية، التي يزيد تفاقمها الاكتظاظ الذي بات يبلغ 300% (راجع «القوس»، 25 آذار 2023، اكتظاظ السجون، «ما عاد في محل»)، إذ يصل عدد المحتجزين إلى حوالي 9000 شخص، من بينهم 279 امرأة و96 حدثاً. بينما يشكل عدد الموقوفين 65%، وعدد الأجانب 41%. تشمل المشكلات إدارة السجون التي تعجز عن الاستجابة لاحتياجات السجناء الأساسية من غذاء ولباس ونظافة، وصعوبة تلبية الاحتياجات للخدمات الطبية (راجع «القوس»، 18 آذار 2023، «حاجات للبقاء»). فيما تبقى خدمات الرعاية الصحية النفسية «آخر الهمّ»، وهي التي لطالما عُدّت من الكماليات الخارجة عن نطاق اهتمامات إدارة السجن. بعد صدور بيان لقوى الأمن يشير إلى إقدام أحد السجناء على الانتحار شنقاً، نستعرض في هذا المقال الانتحار وراء القضبان من منظور علم النفس الجنائي. فهل في القاووش بيئة تدفع نحو الانتحار؟


«كل ما الأوضاع عم تسوء كل ما ابني عم يبتعد عنّي أكثر وأكثر»، تشتكي والدة زياد السجين في المبنى الاحترازي في سجن رومية المركزي، بتهمة ترويج المخدرات وينتظر تعيين جلسة للبتّ في ملفّه. تؤكد لـ«القوس» أن ابنها يعاني من انفصام وبحاجة إلى طبيب نفسي لمساعدته. صحيح أن جريمته تُعدّ جناية وهي من الاستثناءات على المدة القصوى للتوقيف الاحتياطي ويمكن للقاضي رفض إخلاء سبيله، لكن من حق زياد «المتّهم» -بحسب القانون الذي يلزم بتوقيف المدعى عليه والاستمرار بتوقيفه إلى أن يصدر الحكم بحقه- أن يُحاكم، لا أن تطول مدة توقيفه إلى 33 شهراً من دون محاكمة ومع تأجيل دائم لموعد الجلسات، ما يُفاقم تردّي حالته النفسية بعد كل تأجيل للجلسة.
«الكل عم يتخانق مع بعضه ما حدا طايق حدا» يقول كريم، النزيل في المبنى «ج» في رومية، ويشكو من أجواء صعبة وكئيبة التي تطغى داخل القاووش. «جزء من المساجين كأنهم في عالم آخر، ما بتعرف إذا تأقلموا أو عم يفكروا كيف يقضوا على نفسهم»، مشيراً إلى حالة الانتحار التي وقعت في سجن رومية الأسبوع الفائت. لا تراود كريم أفكار انتحارية، إذ لديه عائلة بانتظاره بعد خروجه، لكن، «ما ينطبق عليّ لا ينطبق على كل السجناء».
«مش عم نطلب شي غير قانوني: إما إخلاء السبيل أو صدور الحكم»، تقول والدة سجين آخر محكوم بجريمة سرقة وموقوف بجريمة قتل منذ ست سنوات، ولا يزال في انتظار تعيين جلسة للبتّ بملفه. وفي كل مرة يقترب موعد الجلسة تؤجّل إلى تاريخ لاحق، ما جعل اليأس والخوف يسيطران على عقل طارق، تقول والدته: «عم حاول خلّيه يضل عنده أمل وما يكتئب، بس قدّيش هالأمل بدّو يدوم؟».

أهمية الدعم الاجتماعي
أشارت دراسة أجريت عام 2021 لمجموعة باحثين أميركيين (الدعم الاجتماعي والتفكير الانتحاري بين السجناء المصابين باضطراب اكتئابي كبير) إلى أهمية الدعم الاجتماعي على التفكير الانتحاري على عيّنة من 169 سجيناً يعانون من اضطراب اكتئابي كبير. ووجدت الدراسة علاقة كبيرة بين الدعم الاجتماعي وانخفاض احتمال وجود الأفكار الانتحارية. ويُعدّ هذا التأثير مهماً أيضاً حتى بالنسبة للسجناء الذين سبق أن حاولوا الانتحار. توضح النتائج أنه حتى في ظل وجود عوامل خطيرة قد تؤدي إلى الانتحار، يبقى الدعم الاجتماعي مؤشراً قوياً لمكافحة هذه الظاهرة. ما يؤكد أهمية تعزيز الدعم الاجتماعي في مراكز الاحتجاز.
في ورقة مراجعة لعدة دراسات (Literature Review) أجراها باحث بلجيكي أواخر العام نفسه عن عوامل الخطر والوقاية من الأفكار والسلوك الانتحاري في السجون، تشير إلى أن رعاية الصحة العقلية لعلاج الحالات النفسية أساسية. إذ يفترض توفير التدخلات النفسية والاجتماعية التي تستهدف الأفكار والسلوك الانتحاري بشكل مباشر للسجناء المحتاجين. وجدت هذه المراجعة نتائج مشجعة، إذ يؤدي العلاج السلوكي المعرفي والعلاج النفسي الديناميكي الشخصي إلى تحسين حالة السجناء الذين راودتهم فكرة الانتحار. كما تشير إلى أن معدلات الانتحار في السجون تتجاوز بكثير المعدلات خارجه، إذ يعاني الكثيرون من الأفكار الانتحارية أو ينخرطون في سلوك انتحاري من دون نتيجة قاتلة. ولفتت المراجعة إلى أن خطر الانتحار يكون أعلى في الظروف الاجتماعية الشديدة للسجن، كالتعرض للحبس الانفرادي أو الاكتظاظ داخل القاووش.
ونظراً لأهمية الدعم الاجتماعي للتصدي للأفكار الانتحارية، ما مدى وجود هذا الدعم في سجون لبنان اليوم؟ علماً أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ساعدت في انقطاع التواصل بين السجناء وأفراد أُسرهم. ومن ناحية أخرى قد يكون دخول البعض إلى السجن سبباً لابتعاد عائلاتهم وتخلّيهم عنهم.

السجناء أكثر عرضةً للانتحار؟
«السجناء أكثر عرضة وخطراً لمحاولة الإقدام على الانتحار» بحسب الاختصاصية في علم النفس العيادي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، دينا عينا، لافتة إلى أسباب عدة تعزّز هذا الخطر، منها الابتعاد عن المجتمع الذي كان يحيط بالسجناء ويحميهم ويساعدهم كالأم والأب والزوج والأصدقاء. كما أن بيئة السجون قد تلعب دوراً مساعداً على الانتحار عبر وجود حالات تنمّر واستعمال العنف بين السجناء والتعرض للأذى الجسدي، إذ لا يمكن لمن يعاني من مشكلات في إدارة المشاعر على حماية نفسه من الإحباط. تضيف عينا: «يحتاج العديد من السجناء إلى مصحّة لتلقّي المساعدة، لكن للأسف وبسبب الإمكانيات والموارد المحدودة يواجهون صعوبة في تلقّي العلاج المناسب».
المعالجة النفسية في جمعية عدل ورحمة والخبيرة النفسية المحلّفة لدى المحاكم، كريستال بسترس، تشير إلى أن ظروف السجن السيّئة والنقص في تأمين الحاجات الأساسية من تغذية وطبابة، وصعوبة التواصل مع الأهل غير القادرين على زيارة أبنائهم، كلها تشكل عوامل تزيد من المخاطر على الصحة النفسية وتزيد من الاضطرابات النفسية للسجين كالاكتئاب. ويفترض أن يُعالج التهديد بالانتحار بحذر. إذ يمكن لهذا التهديد أن يكون مجرد وسيلة يستغلها السجناء للحصول على مطالبهم، كتحديد موعد للجلسات مثلاً، لكنه يمكن أن يكون جدّياً وحقيقياً، لذلك يجب مواجهة الأفكار الانتحارية للسجين بأخذها على محمل الجد. ولوجود الاختصاصي النفسي أهمية كبيرة لتقييم كل حالة على حدة، ومعرفة مدى وجود هذه الأفكار الانتحارية المطروحة ومدى نيّة السجين على تنفيذها، ومعرفة إن كان مقبلاً على التخطيط للانتحار



المعاناة واحدة
«الانتحار مش بس بسجن الرجال، انتحرت سجينة بسجن زحلة من 9 أشهر وصار في محاولات أخرى كمان»، بحسب مديرة جمعية «دار الأمل» هدى قرى، لافتة إلى أن الصعوبات داخل هذه السجون لا تختلف عن بقية أماكن الاحتجاز. يقتصر عمل جمعية دار الأمل على ثلاثة سجون للنساء: بعبدا وطرابلس وزحلة. تشير قرى إلى أن اليأس الموجود خصوصاً لدى المحكومين لمدة طويلة يُفقدهم الأمل والرغبة بالاستمرار في العيش. كما تفقد الكثير من النزيلات التواصل مع عائلاتهن بسبب وصمة العار التي ألحقنها بأُسرهن. وساهم ارتفاع كلفة المواصلات في تقليص زيارات الأهل وجعل التواصل معهم شبه معدوم. كل ما سبق ذكره، بحسب قرى، يساهم بالإقدام على محاولة الانتحار.
شهد سجن زحلة حالة انتحار واحدة، وقعت منذ 9 أشهر لسجينة محكومة بالمؤبّد كانت تعاني من مشكلات نفسية بعدما تبرّأ أهلها منها. وتلفت قرى إلى أن سجن زحلة شهد محاولات انتحار عديدة مماثلة. فقد حاولت إحدى السجينات، التي وضعت بالغرفة الانفرادية، الانتحار عبر شنق نفسها بأغطية النوم، كذلك أولت سجينة أخرى أجنبية الانتحار بالطريقة نفسها. وتؤكد قرى أن المتابعة والمعالجة النفسية هي أحد الحلول للحد من ظاهرة الانتحار، و«الدليل وجود متابعة في دار الأمل لاختصاصيين نفسيين واجتماعيين للوقوف إلى جانب السجينات ومساعدتهن في سجنَي طرابلس وبعبدا اللذين لم يشهدا أي محاولة انتحار».

«ما بيكفي»
بحسب ممثلة «الحركة الاجتماعية» شارلوت طانيوس يوجد في سجن رومية المركزي ضمن مبنى الأحداث متابعة نفسية لأكثر من جمعية، وكذلك في سجون النساء الأربعة، ولكن بشكل غير متوازن وشبه يومي، باستثناء سجن بربر خازن حيث المتابعة النفسية قائمة من دون انقطاع.
يختلف الأمر في سجون الرجال، «السجون يلي يوجد فيها متابعة نفسية بينعدّوا ومش كثار» تقول طانيوس. فالمساعدة قائمة في سجن طرابلس، وزحلة ورومية خاصةً. وتضيف: «هناك افتقار لمتابعة الصحة النفسية عند الرجال»، إذ يبلغ عدد السجناء الذين هم بحاجة إلى متابعة نفسية 2500 وهو عدد كبير، تطاول المساعدة فقط 5% منهم، بل وأقل بكثير أيضاً.

برنامج العدالة التصالحية
يصف رئيس جمعية «نسروتو»، الأب مروان غانم، لـ«القوس» أوضاع المتحجرين خلف القضبان بالسيّئة. هناك بعض الحالات التي تهدد بالانتحار وهناك من ينتحر فعلاً. لكن، بحسب غانم، لا يزال الرادع الديني والعائلي يقف بوجه هذا الفعل وقد يقتصر الأمر على التهديد. ويضيف أن الوقوف إلى جانب النزلاء وتقديم الدعم والمساعدة يساعد في ردعهم. تقديم المساعدة قائم في جمعية «نسروتو» بعد عقد اتفاقية تعاون مع الجامعة اللبنانية وجامعة الكسليك، تنصّ على أن يقدم الحائزون أخيراً على شهادة ماجستير في علم النفس من الجامعتَين خدمات نفسية للسجناء الذين يطلبون المساعدة، انطلاقاً من برنامج «العدالة التصالحية». يدور البرنامج حول العدالة والمسؤولية والجرم المقترف من قِبل السجين والمسؤولية تجاه هذا الجرم. فالمساعد النفسي يعمل على حالة السجين الشخصية وتنميتها. يشير غانم إلى أن هذه البرامج قوبلت بالنجاح، إذ يُلاحظ أن السجناء المشاركين بالبرنامج أُعيد تأهيلهم وابتعدوا عن البيئة الجرمية، كما «نلاحظ تطوراً على المستوى النفسي عند السجناء».

أهمية الطبّ النفسي
«يكمن الحل، قبل كل شيء، في تحسين ظروف السجن وتأمين الحاجات الأساسية له وزيادة المشاغل داخل القاووش لخلق نشاطات تثقيفية وتعلمية ما يساعدهم على تنمية قدراتهم وكفاءاتهم وزيادة شعورهم بالفاعلية الذاتية، كما يفترض زيادة التدخل النفسي للسجناء ضمن برامج إعادة التأهيل» بالنسبة لبسترس. وتلفت إلى أنه يُفضّل إقامة تقييم نفسي لكل السجناء بمجرد دخولهم السجن، لمعرفة حالتهم النفسية، وإنشاء ملف لكل سجين يتضمّن وضعه النفسي. يتطلب ذلك وجود اختصاصيين وأطباء نفسيين لمتابعة صحة السجين النفسية ضمن برنامج إعادة تأهيله، لكن العدد الموجود حالياً غير كاف مقارنة بأعداد السجناء ومتطلباتهم.
وتشير عينا إلى أن مساعدة السجين تتطلب تغييراً في ثقافة إدارة السجن التي، ربما، لا تعطي أي أهمية للطب النفسي، وقد يكون ذلك صعباً حالياً. لكن يمكن الاكتفاء، في الوقت الحالي، بمبادرات بسيطة لتعليم السجناء كيفية التعاطي مع الضغوطات والتعامل مع أفكارهم الانتحارية، والمساعدة على اكتسابهم مهارات كيفية التعاطي مع واقعهم بشكل بنّاء وفعّال. كما يُستحسن وجود توعية للسجّانين في ما يتعلق بكيفية التعامل مع المشكلات النفسية. فـ«الهدف هو إنقاذ السجين وإعادة تأهيله».كيف تكون بداية الحل؟
بحسب المرسوم الرقم 14310 «تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم»، تُعيّن وزارة الداخلية والبلديات الأطباء المسؤولين عن رعاية السجون بعد استطلاع رأي وزارة الصحة. وبحسب مواد المرسوم (52، 53 و54 - في الإدارة الطبية) يفترض على الأطباء أن يزوروا السجن ثلاث مرات على الأقل في الأسبوع. وفي نهاية كل ثلاثة أشهر يضع الأطباء تقريراً مفصّلاً عن حالة السجن من حيث توافر الشروط الصحية وعن حالة المسجونين. لكن يُلاحَظ عدم وجود نص صريح يشمل الأطباء والاختصاصيين النفسيين لمعالجة السجناء.
صدر هذا المرسوم سنة 1949، أي أنه قد مرّ 74 سنة على تطور القوانين والمراسيم المتعلقة بأماكن الاحتجاز. بمعنى آخر، لا يحاكي هذا المرسوم واقع السجون اليوم.
لتطوير نظام سجون يشمل جميع الأنماط الجنائية وكيفية التعامل معها ويؤمن الحاجة المتزايدة للطب النفسي


فمع تطور المفاهيم المتعلقة بأماكن الاحتجاز وكيفية تنظيمها كي تتحقق أهداف العقوبة ومن أهمّها إعادة التأهيل، يفترض إصدار مرسوم جديد يتوافق مع الأنشطة الجرمية، كإنشاء مراكز لإعادة تأهيل النزيل. والمشكلات داخل القضبان التي نشهدها اليوم تؤكد ضرورة تطوير نظام ومرسوم السجون ليشمل جميع الأنماط الجنائية وكيفية التعامل معها، ولتأمين الحاجات المتزايدة للطب النفسي لأهميته بمتابعة ومعالجة كل سجين، ولكي يتوافق مع قواعد نيلسون مانديلا (قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء) وتحديداً القاعدة 25 التي تنصّ على ضرورة «أن يكون في كل سجن دائرة لخدمات الرعاية الصحية مكلَّفة بتقييم الصحة البدنية والعقلية للسجناء وتعزيزها وحمايتها وتحسينها في كل سجن». وتتألف هذه الدائرة من فريق متعدِّد التخصُّصات يضمُّ عدداً كافياً من الأفراد المؤهَّلين الذين يعملون باستقلالية إكلينيكية تامة، وتضمُّ ما يكفي من خبرة في علم النفس والطب النفسي.
إن معاينة طبيب أو اختصاصي نفسي للسجناء في ظل ظروف معقّدة وشاقة قد يساعدهم على التعامل مع فكرة الانتحار. إذ قد تراود الفكرة أي نزيل، محكوماً كان أو موقوفاً، ومع ذلك يفترض معالجة الأسباب التي قد تؤدي إلى الانتحار ومنها:
• الاكتظاظ الحاد.
• النسبة العالية من الموقوفين احتياطياً.
• الأزمة الاقتصادية.
• الرعاية الصحية الضعيفة.
• عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للسجناء من الغذاء والماء والنظافة والأمن.