تنقضي ليلة اليوم الأربعاء آخر ليلة وترية في شهر رمضان، وتنتهي معها آخر ليالي القدر التي أُنزِل فيها القرآن الكريم. لا يفوّت المسلمون إحياء ليالي القدر لإيمانهم بما قاله الله إنها «خير من ألف شهر». يستهلّونها بالذكر والاستغفار والصلاة وتلاوة القرآن والدعاء. ينتظرونها متيقّنين بأنها ليلة غير عادية، تُفتح فيها أبواب السماء أمام أيّ حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، وتُفصّل فيها الأقدار للعام المقبل. تختلف الروايات حول تحديد ليلة القدر بدقّة. يحيي أبناء الطائفة الشيعية ليالي 19، 21 و23 من شهر رمضان على أنها بالتوازي ليالي القدر الصغرى، الوسطى والكبرى. أما أبناء الطائفة السنية فيحيون ليالي الـ10 الأخيرة الوترية من شهر رمضان (ليالي 21، 23، 25، 27، 29) مع ترجيح بعض الأقاويل أن ليلة القدر هي ليلة 23 أو 27. وجميعهم يفصحون عن علاقة جميلة تجمعهم بهذه الليلة التي قال الله تعالى إنها «ليلة عظيمة ومباركة».
يقضي كثير من المسلمين ليالي القدر بالبكاء والتأمل والطاعة. يتناقلون شعورهم بالذوبان، يسألون المسامحة والدعاء لعلّ الآخر أقرب منهم إلى الله، ويطلبون الرحمة لموتاهم.
تعبّر فاطمة عن تعلّقها بليلة القدر التي تراها «ليلة دافئة وذات طاقة عالية للتواصل الروحي مع الذات ومع الله، كلّ على طريقته». تشعر بـ«سحر غريب في هذه الليلة يشدّها إليها. فتعتزل كل شيء وتختلي بنفسها، لتقابل الله».

حاجات وأمنيات
يُجمِع المؤمنون بليلة القدر على أنها ليلة «الأمنيات المقضيّة والدعوات المستجابة». حتى يارا، ابنة العشر سنوات، تنتظر ليلة القدر وفي جعبتها سلة من الأماني، وزوّادة أدعية للعام المقبل، تنظر إلى الأعلى «حيث السماء مليئة بأمنيات الناس»، تسلّم حصتها إلى ربّها، متمنية: «يا ربّ كلّهم يتحققوا». من هنا، يحمد البعض ربّهم أنهم بلغوا ليلة القدر لتكون لهم فرصة للتوبة وإصلاح ما فاتهم ورسم خريطة حياتهم لسنة إضافية. يسألون عن حصتهم من الخير في ليلة توزيع الأرزاق ومحو السيئات وإطالة العمر ومنح الصحة.
انسجمت حاجات اللبنانيين إلى الله مع واقعهم المعيشي الصعب. فهناك من سأل ربّه أن تنتهي الأزمة الاقتصادية ويعود بالزمن إلى ما قبل عام 2019، وهناك من خصّ الليرة في دعائه، فسأل ربّه أن «ينزل الدولار». ولأن الأزمة أثّرت على جميع مفاصل حياة اللبنانيين، طلب مروان أن يُرزق عملاً بمدخول جيد. وطلبت غدير أن تتيسّر أوضاعها المادية وأوضاع خطيبها حتى يتسنّى لهما الزواج. وتمنّت أمّ علي في هذه الليلة أن يعود ابنها البكر من الهجرة ويلقى حياة كريمة في ربوع الوطن بالقرب منها.
يُجمِع المؤمنون بليلة القدر على أنها ليلة الأمنيات المقضيّة والدعوات المستجابة


إحياء في الجامع
باستثناء فترة انتشار جائحة كورونا والالتزام بالحجر المنزلي، كبرت زهراء وهي تحيي ليالي القدر الثلاث في الجامع، رافقتها والدتها في صغرها إلى المسجد وها هي ترافق ابنتها بعدما كبرت. «صحيح أن الليلة الثالثة هي أقرب إلى الكبرى لكنّي أحيي الليالي الثلاث بالمستوى ذاته». تؤدي زهراء جميع الأعمال التي تُقام في الجامع، ثم تواصل العبادة في المنزل إلى أن تشرق الشمس. لا تدع النعاس يغلبها في «أفضل الليالي عند الله لذا أتهيأ لها جيداً».
نور أيضا تحيي الليالي الثلاث في الجامع فـ«كلّها ثلاث ليالٍ ونحن مقصّرون كثيراً طوال السنة». تواجدها في الجامع يشعرها بالخشوع والعبودية، فيُخيّل لها أن «الرحمة ستنزل على الجميع، ستأخذ أعمالهم السوداء وتعيدها صفحة بيضاء». يستمر تأثير هذه الليلة على نور حتى بعد طلوع الشمس، «يكون النهار مختلفاً وجديداً فعلاً».

«نغيّر أقدارنا»
من جهتها، تحيي غيدا أغلب ليالي القدر في المنزل، «بسبب الزحمة الكبيرة في الجوامع، فلا نجد مكاناً للجلوس، إلا إذا نزلنا في وقت مبكر جداً لحجز أماكن في جامع المجيدية في بيروت حيث يؤدي الإحياء شيخ ذو صوت جميل ومؤثّر». تفعل ذلك عادة في الليلة السابعة والعشرين لترجيح البعض أنها ليلة القدر، لكنها تحيي الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان وتركز على الليالي الوترية. كيف تقضي هذه الليالي؟ تجيب: «كل واحد يذكر ربّه حسب قدرته، بالصلاة، التسابيح، قراءة الأذكار والأدعية، تلاوة القرآن والإكثار من قراءة أواخر سورة البقرة». وتخصص غيدا وقتاً للدعاء لإيمانها أنه «بالدعاء نغيّر قدرنا».

جو مختلف في طرابلس
تتحدث آلاء عن ليالي القدر في طرابلس بكثير من الاندفاع. تُقفل المحالّ في الليالي الخمس، علماً أنها تقع في أجواء التحضير لعيد الفطر. بعد صلاتَي العشاء والتراويح تعجّ الجوامع بالمُحيين، وأحياناً توضع الكراسي ومكبّرات الصوت في الشوارع لاستيعاب الأعداد الكبيرة. وتنقل ترجيح الناس في طرابلس أن «تكون ليلة الجمعة 23 هي ليلة القدر هذا العام لأنه عندما صحونا في اليوم التالي كانت الشمس بيضاء يمكن النظر إليها والسماء صافية». عادة، تشعر آلاء بالقرب من الله في جميع ليالي القدر «ما دام هناك احتمال أن تكون إحداها ليلة القدر التي تتنزّل فيها الملائكة على الأرض».