«كنّا قبل مجيء شهر رمضان بأسبوعين إلى ثلاثة، نحضّر أنفسنا من خلال شراء البضائع، وتخزينها ثم عرضها. اليوم، لا يوجد أيّ شيء من ذلك. الوضع صعب جدّاً على الجميع، والناس تعيش يوماً بيوم». بهذه العبارات يختصر صاحب محل لبيع مواد غذائية في سوق العطّارين في طرابلس أجواء المدينة وهي على أبواب شهر الصّوم.باستثناء الزينة الرمضانية التي وضعتها بلدية طرابلس في ساحة التّل وسط المدينة، وبعض المدائح والموشحات الدّينية التي تبثّها مكبّرات صوت، على خجل، في المنطقة والأسواق الدّاخلية، تكاد تختفي الأجواء الرمضانية في مدينة كانت تنقلب فيها الحياة رأساً على عقب مع حلول شهر رمضان.

مدينة لا تنام
حتى سنوات قليلة مضت، وتحديداً قبل بداية الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، كانت طرابلس تعيش أجواءً رمضانية صاخبة تكاد لا تعرفها أيّ منطقة لبنانية أخرى. من ازدحام الأسواق بالمتسوّقين قبل شهر رمضان وخلاله، وصولاً إلى الأيّام الأخيرة منه قبل عيد الفطر، إذ تتحوّل أسواق طرابلس وشوارعها فيها إلى ما يشبه يوم الحشر. فضلاً عن ازدحام المطاعم والمقاهي، الراقية والشعبية، بالروّاد بدءاً من بعد موعد الإفطار بقليل وصولاً إلى ساعات الصباح الأولى، حتّى يكاد يُخيّل للمرء أنّ طرابلس مدينة لا تنام، بينما هي عادة في غير شهر رمضان تدخل معظم مناطقها في سبات عميق مع أوّل ساعات المساء.
كلّ هذه الأجواء اختفت أو تكاد من عاصمة الشّمال، بما فيها الدّعوات لإقامة حفلات إفطار جماعية، أو مراكز توزيع كراتين الإعاشة الرمضانية على المواطنين في مكاتب ومقارّ عائدة لسياسيين أو رجال أعمال أو متبرّعين في معظم أحياء المدينة ومناطقها بلا استثناء، إضافة إلى الزينة الرمضانية التي كانت لا تغيب عن أيّ منطقة أو حيّ أو منزل في المدينة.

نار الأسعار
في الأسواق التجارية، تحوّلت الشكوى إلى قاسم مشترك بين الجميع، الباعة من جهة والمتسوقون من جهة أخرى. يقول صاحب محل لبيع المواد الغذائية إنّ «أسعار السلع في الأسواق الشّعبية أرخص منها في السّوبرماركات الكبيرة، ومع ذلك فإنّ الأسعار مرتفعة لأنّنا جميعاً نشتريها بالدولار، لكنّ الفرق أنّنا نقبل بربحٍ بسيط».
غير أنّ للمتسوقين رأياً مختلفاً. يقول أحدهم على مرأى ومسمع من أصحاب المحال التجارية، وبصوت مرتفع: «التجّار فجّار. يستغلون مجيء شهر رمضان لرفع الأسعار وتحقيق أرباح على حساب لقمة الفقير الصائم»، مضيفاً: «كيف يمكننا أن نؤمّن سفرة رمضان أو نموّن في بيوتنا إذا كانت الأسعار نار ومداخيلنا على قدّها».
تختفي الأجواء الرمضانية في مدينة كانت تنقلب فيها الحياة رأساً على عقب


يمكن الاكتفاء بمرور سريع على أسعار السّلع الأساسية في أسواق طرابلس حتى يتبيّن حجم معاناة العائلات في رمضان، وخصوصاً الفقيرة منها وذوي الدخل المحدود. أسعار الخضروات كالبندورة والخيار والخسّ والبصل تُراوح بين 40 و70 ألف ليرة، بحسب نوعيتها وجودتها، ما دفع أحد المواطنين إلى السّؤال: «إذا كان دخلي اليومي 300 ألف ليرة فقط، وهو بالكاد يساوي تكلفة صحن فتّوش، فكيف يمكننا أن نؤمّن سفرة رمضان؟».
أمّا أسعار اللحوم فحدّث ولا حرج. فسعر كيلو لحم الغنم يُراوح بين مليون ليرة على أقلّ تقدير ومليون ونصف مليون، وكيلو لحم البقر لا يقلّ عن مليون ليرة، ولحوم الدجاج تتراوح كمعدل وسطي بين 200 ألف لسعر كيلو الفخاذ و400 ألف ليرة كيلو السّفاين، وهي أسعار تجعل تكلفة أي سفرة رمضانية متوسطة لعائلة مكوّنة من 7 أفراد تقارب أو تفوق الدخل الشّهري لربّ الأسرة إذا كان موظفاً أو عاملاً.

المأكولات الشعبية... غير شعبية
حتى المأكولات الشّعبية المشهورة في طرابلس التي كانت تزيّن موائد أغلب الفقراء ومتوسطي الدخل في المدينة، أصبح يُحسب لها ألف حساب. المغربية مثلاً، بات سعر الكيلو منها لا يقلّ عن 150 ألف ليرة، فيما تجاوز سعر دزينة الفلافل 90 ألف ليرة، هذا عدا عن سعر ربطة الخبز والعصائر، حتى العادية منها، بينما أصبح تناول الحلويات ترفاً لا تصل إليه عائلات المدينة، بعدما اقترب سعر كيلو القطايف من 200 ألف ليرة، وهي الحلوى الشّعبية الأشهر والأرخص في طرابلس، ما يطرح تساؤلات حول كيف سيفطر الصائمون في مدينة صُنّف أكثر من 80% من سكّانها بأنّهم يعيشون تحت خط الفقر؟
هذا الوضع المعيشي الصّعب في طرابلس، وهي على أبواب شهر رمضان، يختصره مشهد مواطن وقف أمام أحد محال بيع الخضر والفواكه في المدينة يصرخ مشدوهاً بأسعارها المرتفعة: «شي متل الكذب. والله العظيم تعبنا. كيف بدنا نعيش؟».