في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية وارتفاع كلفة السلع والخدمات، يواجه السكان في لبنان صعوبات جمّة في الحصول على حاجاتهم الأساسية، وتزداد الضغوطات التي يواجهونها يومياً، إضافة إلى غياب الثقة في القضاء وتداعيات تعطيل العدالة على المشهد الأمني، علماً أن بعض الضباط والعسكريين في القوى الأمنية يستمرون في أداء واجبهم بـ«اللحم الحي» رغم ضعف الإمكانات. قد يكون الانهيار الاقتصادي الحادّ والمتسارع مؤشراً إلى إقدام بعض الأفراد على ارتكاب جرائم أو الانتحار، ولا سيّما مع انتشار أخبار حول العثور على جثث في مختلف المناطق. لكن، لا بد من التنبّه إلى أن نشر تقارير متعلقة بـ«الانتحار» في وسائل الإعلام قد يؤثر على نسبة جرائم الانتحار عبر خلق «ترند انتحار» إعلامي. يستعرض هذا المقال مسلسل العثور على الجثث منذ بداية العام الجاري، ويناقش طرق التعامل المهني مع مسرح الحادثة، ويسلط الضوء على الإطار القانوني للتحقيقات الجنائية، كما يتناول ظاهرة الانتحار من منظور علم النفس الجنائي ويستعرض سبل الحماية والعلاج.

منذ بداية السنة، عُثر على 27 جثة في مختلف المناطق، وفقاً لبيانات قوى الأمن الداخلي ووسائل الإعلام. تسرّع البعض في تحديد «أسباب وفاة» عدد كبير من المتوفين، ونُشرت تقارير وتحليلات تشير إلى أنها حوادث انتحار، واعتُبرت تلك الحوادث بمثابة «ظاهرة» أو «ترند» وبدأت بمقارنتها مع الأعوام الماضية. علماً أن سبب الوفاة في أي من تلك الحوادث، قد يكون الانتحار فعلاً، لكن بعد تحديد طريقة الوفاة، وهو ما يتطلب تحقيقات علمية دقيقة وإجراءات قانونية تستغرق بعض الوقت. إلا أن حسم ملابسات الوفاة يعود إلى المحكمة المستقلة، ومن قلّة المسؤولية الاستناد إلى تسريبات ومعطيات أولية لحسم أسباب الوفاة (راجع «القوس»، عدد 4 آذار 2023، "العدالة (ليست) رهينة الجمهور والإعلام").
وتشير الاختصاصية في علم النفس العيادي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، دينا عينا، إلى أن طريقة تعاطي الإعلام مع الجثث التي يُعثر عليها وحسم الأمر على أنها «انتحار» قد يزيد ذلك من خطورة الإقدام على الانتحار فعلياً، إذ لا يقتصر تأثير الأخبار التي تتعلق بالانتحار على اللاوعي لدى الفرد، بل على الوعي مباشرةً، إذ يصبح الانتحار خياراً مطروحاً وقد يعطي أفكاراً وتبريرات للإقدام عليه وتنفيذه، وخصوصاً عند نقل خبر الانتحار بكامل تفاصيله.
واستشهدت عينا بدراسة علمية حديثة حول تأثير الإعلام على إقدام الأشخاص على الانتحار، وخلصت إلى أن الخطورة أو احتمال إقدام الأشخاص على الانتحار ارتفع بنسبة 13% في الفترة التي تلت نشر خبر انتحار شخصية مشهورة على الإعلام. وفي الحالات التي نُشرت فيها تفاصيل الانتحار كاملة، لوحِظت زيادة الانتحار باستخدام الطريقة نفسها بنسبة 30%.
وتلفت أستاذة العلوم النفسية الاجتماعية في الجامعة اللبنانية أديبة حمدان إلى أن للإعلام تأثيراً كبيراً على الأفراد الذين تراودهم فكرة الانتحار، وخصوصاً أولئك الذين يعانون من اضطرابات معيّنة إضافة إلى فئة المراهقين، إذ إن «طريقة الانتحار» التي يتم وصفها على مختلف الوسائل الإعلامية تكون غالباً الوسيلة التي قد يستلهمها الأشخاص المضطربون أو المراهقون.
وتؤكد كريستل بسترس، اختصاصية علم النفس والخبيرة النفسية المحلّفة لدى المحاكم، أن الإعلام قد يطاول الأشخاص الذين لديهم استعداد لقتل أنفسهم، ويمكن أن يؤثر سلباً على تصرفاتهم ويشدّ من عزيمتهم.

تعدّد الفرضيات
لا بد من الأخذ في الاعتبار كل الفرضيات أثناء التحقيقات في حال العثور على جثة. الخطوة الأساسية، هي الحفاظ على الموقع حيث وُجدت الجثة، إذ قد يكون مسرحاً لجريمة. يساعد الكشف الدقيق والمهني في تحديد ملابسات الوفاة: قتل؟ أو انتحار؟ أو اغتصاب ثم قتل؟ أو دهس؟ أو جرعة زائدة؟ أو جلطة قلبية؟ أو قتل عن طريق الخطأ؟ أو غيرها؟ من هنا، يلعب علم السموم الجنائي دوراً مهماً، بالإضافة إلى علم الحشرات الجنائي، ولا سيّما إذا اكتُشفت الجثة في أماكن مفتوحة.
ومن المهم التأكيد على ضرورة التزام القائمين على التحقيق والأطباء الشرعيين بالمهمات المكلّفين بها، وعدم التسرع بالوصول إلى الاستنتاجات والخلاصات. فمهمة الطبيب الشرعي شرح ووصف المعطيات العلمية في ما خصّ جرح دخول الطلق الناري مثلاً وليس الحسم بالانتحار. (راجع «القوس»، عدد 21 أيار 2022، «الخيط رفيع بين القتل والانتحار»)

العثور على جثة: ما العمل؟
العثور على جثة تجربة مروعة ومرهقة عاطفياً. إذا حاولت لمس الجثة أو تحريكها، فأنت تعرض صحتك وسلامتك للخطر. يمكن أن يحوي جسد الشخص المتوفى بكتيريا يُحتمل أن تكون معدية وأن تصيب أولئك الذين يتعاملون معها. لذا، ماذا عليك أن تفعل إذا وجدت جثة؟ لضمان سلامتك، اتّبع هذه الخطوات:
• لا تلمس أيّ شيء
قد تكون هذه الجثة جزءاً من مسرح جريمة (قتل، انتحار، اغتصاب، أو غيرها). لا يمكن التدخل في الأدلة، إذ يؤدي لمس الجثة أو تحريكها إلى تدمير أدلة حيوية وحساسة. من جهة أخرى، يمكن أن تبدأ الجثة في التحلل بسرعة كبيرة، وعليه قد يُسبب لمس الجلد أو سوائل الجسم أمراضاً خطيرة.
• اتصل بالشرطة
يمكن لوكالات إنفاذ القانون والمسعفين تحديد ما إذا كان الشخص متوفى بالفعل واتخاذ قرارات بشأن الخطوات التالية، بما في ذلك حماية مسرح الحادثة واستدعاء المباحث العلمية للتعامل مع الجثة والأدلة.
• تأكّد من سلامتك
إذا كنت تشعر أن الخطر يحيطك حيث وجدت الجثة، اترك الموقع وتواصل مع الشرطة من مكان آخر.
• التعاون مع القائمين على التحقيق
كن متعاوناً أثناء التحقيقات، وحاول أن تتذكر، بقدر ما تستطيع، كيف وجدت المشهد.

الانتحار في علم النفس الجنائي
تتحدث عينا عن مدى تأثير الروابط العائلية والدينية على الانتحار. فلهذه الروابط تأثير مباشر وقوي على كل خطوة من خطوات الانتحار، بدءاً من فكرة قتل الذات إلى عملية التخطيط وتنفيذ الانتحار. تقول عينا إن الروابط الأسرية سيف ذو حدّين، فإذا كانت تلك العلاقة صحية وسليمة، حيث يشعر الفرد بانتمائه إلى العائلة التي تحتضنه وتتقبّله كما هو، جاهزة للاستماع إليه، فقد تساهم بشكل كبير في حماية الأشخاص من الإقدام على الانتحار. والعكس صحيح، عندما تكون تلك العلاقة سلبية وغير حاضنة. وتضيف الاختصاصية في علم النفس أن الروابط الدينية والإيمان من العناصر الأساسية التي تشكل نوعاً من الحماية للفرد، لذلك يفترض عدم الترويج لفكرة التساهل الديني والإلهي من ناحية الغفران والمسامحة عند ارتكاب الانتحار.

درجات وتراكمات أو مفاجأة؟
تقول عينا إن موضوع الانتحار ليس حدثاً مفاجئاً أو آنياً بل يأتي على درجات وتراكمات. يبدأ التفكير الانتحاري بفكرة إنهاء الحياة ثم التخطيط والتحضير، وأخيراً النية التي تُعدّ أهم وأخطر خطوة في تدرّج فكرة الانتحار. يمكن للشخص أن يفكر في الانتحار لكن من دون وجود نيّة للإقدام عليه، وبهذا تبقى فكرة الانتحار لمدة 30 عاماً مثلاً، وقد يعود ذلك لوجود ارتباط قوي بالعائلة أو بالدين أو للخوف من إنهاء الحياة. بحسب عينا، معظم الأفراد الذين لديهم أفكار أو خطط انتحارية، ينتهي بهم المطاف إما بعدم الإقدام على الانتحار أو بالبدء في تنفيذه ثم التراجع عنه.
من جهة أخرى تشير بعض الدراسات العلمية في كلية الطب بجامعة هارفارد إلى أن الانتحار من دون سابق إنذار ليس بالأمر غير المألوف، وأن كثيراً من الأشخاص الذين ينتحرون يفعلون ذلك من دون التفكير في الأمر أو التخطيط له. فعلى رغم أن بعض الأشخاص الذين ينتحرون يعانون من مشكلة صحية عقلية يمكن تحديدها، فإن البعض الآخر ليس كذلك. وفي حين يتحدث البعض عن الرغبة أو التخطيط لقتل أنفسهم أو إعطاء تلميحات أخرى، لا يفعل آخرون ذلك بل يتم اتخاذ قرار الانتحار قبل دقائق أو ساعات فقط من هذا الفعل.

سلوكيات قد تدل على الخطر
بعض حالات الانتحار (ومحاولات الانتحار) لا تأتي بالكامل من فراغ. فبعض الأفراد يُسقطون تلميحات بوعي أو من دون وعي.
في ما يأتي، بعض السلوكيات التي يُفترض من العائلة والأصدقاء أخذها في الحسبان كإنذار لوجود خطر الانتحار:
• الحديث عن الانتحار: عبارات مثل "إذا شفتك مرة تانية" أو "بيكون أحسن إذا كنت ميّت".
• البحث عن الوسائل: محاولة الوصول إلى أسلحة أو أدوية أو أدوات أخرى يمكن استخدامها في محاولة الانتحار.
• كراهية الذات والشعور بانعدام القيمة والعجز والاعتقاد بأن الأمور لن تتحسن أبداً.
• التخلي عن الممتلكات الثمينة.
غالباً ما يقوم الأشخاص الذين تظهر عليهم علامات الانتحار المحتمل بالإبلاغ بضيقهم، على أمل الحصول على ردّ. هذه معلومات مفيدة للغاي، لا ينبغي تجاهلها.

الاكتئاب قد لا يكون السبب
إن مفهوم إقدام كل مكتئب على الانتحار بحسب عينا هو مفهوم خاطئ وشائع، فالاكتئاب هو حالة مزاجية، قد يتضمّن أفكاراً انتحارية وقد لا يتضمّنها. لكن يمكن أن يكون من العوامل التي قد تزيد من خطورة السلوكيات الانتحارية، فحين يعاني الفرد من الاكتئاب، يفترض التنبّه عند وقوع أي تغيّرات في السلوك. وهذا ما أكّدته بسترس بأن الاكتئاب الحاد قد يؤدي إلى خلق أفكار انتحارية، وبالتالي إمكانية الإقدام على فعل الانتحار، لكن ذلك يختلف بين حالة وأخرى.
يُفضّل أن تتجنب وسائل الإعلام الحسم في حالات الوفاة التي يشتبه في أنها ناتجة عن انتحار لأن الحسم من صلاحيات المحكمة


وتؤكد حمدان أنه لا يمكن الحسم بأن كل من يعاني من اكتئاب يقدم على الانتحار، فهناك عوامل إضافية وتختلف من شخص لآخر. وفي هذا الصدد تقول بسترس إن عوامل نفسية متعددة تلعب دوراً في الانتحار. فيعود الأمر لتكوين الشخصية وبنيتها لمعرفة مدى استعدادها للانتحار. فإذا لم تتوفر لدى الفرد عوامل نفسية ضمن تكوين شخصيته فلن يقدم على الفعل. مثالٌ على ذلك، شخصان يعيشان في ظروف متشابهة، قد يُقدم أحدهما على الانتحار، ويعود ذلك لبنيته الشخصية التي تتفاعل مع الأحداث بشكل مختلف من البنية الشخصية للشخص الثاني.
ومن الأسباب الرئيسية للإقدام على الانتحار، فقدان الأمل وانعدام الحلول لمشكلات الفرد، ما يدفعه نحو الانتحار كـ"حل" أنسب وأخير، ولا سيّما في البيئة اللبنانية حيث تزداد ضغوطات الحياة والمشكلات التي يواجهها الأفراد، تشرح عينا. مشكلة أخرى قد تكون مسبّباً للانتحار، هي الأمراض المزمنة التي قد تسبب الكثير من الآلام، بالإضافة إلى التعرّض للعنف الجسدي أو المعنوي. وتضيف عينا إلى تلك الأسباب، حوادث انتحار أحد أفراد العائلة أو المقربين، واستمرار تداول الحادثة بين الناس قد يقود الفرد لقتل نفسه.

للحماية من الانتحار
تنظر عينا إلى الانتحار على أنه سلوك يمكن تفاديه والتعامل معه مثل أي مشكلة أخرى، من خلال البحث والتعرف إلى الأسباب التي دفعت الفرد لمحاولة الانتحار أو التفكير به ومعالجتها. وهذا هو دور الطب النفسي، الذي بمختلف مدارسه العلاجية يعالج الأمراض أو المشكلات النفسية من اكتئاب واضطرابات مزاجية، للمساعدة في العلاج وخفض نسبة خطورة الانتحار. والحماية من الانتحار تكون أيضاً عبر خلق بيئة سليمة وداعمة من العائلة والأصدقاء، وتذكير الفرد بأهمية وجوده في حياتهم وبالأسباب التي تُبقيه على قيد الحياة.

قد يؤئر الإعلام سلباً على تصرفات الأشخاص الذين لديهم استعداد لقتل أنفسهم


إلى جانب ذلك، تستغرب حمدان ازدياد «ظاهرة الانتحار» ضمن مجتمع شرقي وفي ظل معتقدات دينية تحرّم هذا الفعل. وترى أن تفاقم الأزمات على جميع المستويات وارتفاع سعر صرف الدولار، قد يكونان من الأسباب الأساسية لانتشار هذه الظاهرة. وتضيف حمدان أن اللجوء إلى طبيب أو معالج نفسي لم يعد في متناول العديد، نظراً إلى ارتفاع كلفة الجلسات والدواء. ومن هنا، يأتي دور الجمعيات للمساعدة في استقبال أكبر عدد ممكن من الأشخاص المعرّضين للخطر، عبر تأمين جلسات علاجية مجانية بسبب الظروف الاستثنائية التي نمرّ بها، لتشجيع الجميع على طلب المساعدة في ما يتعلق بالعلاج النفسي. تخلص حمدان إلى أن طريق العلاج النفسي طويل ويُعدّ كمسكّن وداعم، على أن يأتي حل شامل من الدولة والمجتمع لتأمين الأمان الاجتماعي كرادع أساسي للحد من الانتحار، لتغطية حاجات المقيمين وتحسين ظروفهم المادية.

ماذا عن المراهقين؟
تحذّر بسترس من تأثير التنمّر على الأطفال والمراهقين، الذي قد يؤدي إلى الاكتئاب وبالتالي إلى خطر وجود أفكار انتحارية. علماً أنه ليس السبب الرئيسي ولكن يُفترض أخذ الحيطة والحذر. وتشدّد بسترس هنا على دور العائلة بالدرجة الأولى والمدرسة بالدرجة الثانية. وتشجع الأهل على الحوار والتواصل مع أبنائهم لمعرفة ما إذا كانت فكرة الموت تسيطر على أذهانهم، ومراقبة تصرفاتهم وتشجيعهم على التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، وملاحظة ما إذا كان أبناؤهم يعانون من تكوين صدقات، أو انعزالهم معظم الأوقات.
من هنا أيضاً، تأتي ضرورة وجود اختصاصيين نفسيين في المدارس من أجل تقييم وتشخيص وعلاج المشكلات النفسية والاختلالات السلوكية الناتجة عن أو المتعلقة بالصحة البدنية والعقلية للأطفال والمراهقين. الأمر الذي يساهم بشكل أساسي في خلق مناخات مدرسية آمنة وإيجابية.



تجريم التحريض عليه


يعاقب القانون اللبناني المساعدة على الانتحار أو التحريض عليه بأي وسيلة. نصّت المادة 553 من قانون العقوبات اللبناني على أن من حمل إنساناً بأي وسيلة كانت على الانتحار أو ساعده على قتل نفسه، عوقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر إذا تم الانتحار، وبالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين في حالة الشروع في الانتحار نجم عنه إيذاء أو عجز دائم. (راجع القوس، عدد 21 أيار 2022، "الانتحار جريمة أم موت بريء؟").