يمثل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، العاشرة والنصف من صباح اليوم، أمام نائبة رئيسة محكمة الاستئناف في باريس القاضية أود بوروزي بإدارة قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، تنفيذاً لاستنابة قضائية قدّمتها بوروزي لاستجوابه كمشتبه فيه في جرائم تبييض أموال. سلامة تغيّب عن جلسة استماع كانت مقررة أمس، بعدما تقدّم وكيله القانوني المحامي صخر الهاشم بمذكرة اعتبر فيها أن الاستماع إلى الحاكم أمام قضاة أجانب يدخل ضمن انتهاك سيادة القضاء اللبناني، مستنداً إلى معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وتلا الهاشم أسباب رفض حضور سلامة أمام القاضي أبو سمرا ورئيسة هيئة القضايا القاضية هيلانة اسكندر والوفد القضائي الفرنسي، قبل أن يرسل أبو سمرا مذكرة إلى النيابة العامة التمييزية لإبداء الرأي. ورد المحامي العام التمييزي غسان خوري، بالنيابة عن مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، طالباً اتخاذ الإجراءات المناسبة، بعد تلميحه إلى عدم سؤال النيابة العامة التمييزية عن رأيها في شأن حضور قضاة أجانب، وبالتالي ليكمل ما بدأه بنفسه. وفور تسلّم القاضي الردّ، قرّر رفض مذكرة سلامة لأن «تنفيذ الاستنابة لا يتعارض مع القانون اللبناني»، ورفع الجلسة إلى صباح اليوم، وسط تأكيد وكيل سلامة أن موكله سيحضر الجلسة. واعتبر أبو سمرا أن تغيّب سلامة لا يدفعه إلى اتخاذ أي إجراءات، «فأنا أنفذ استنابة قضائية، وبالتالي يعود للقضاء اتخاذ القرار المناسب، ولكن من خارج الأراضي اللبنانية». فيما أشارت مصادر قضائية إلى أنه في حال تأكد سلامة من أن القاضية الفرنسية قرّرت الادعاء عليه مسبقاً قبل الاستماع له كإجراء شكلي يفرضه القانون الفرنسي، فإنه سيتغيب على الأغلب لأن النتيجة نفسها سواء حضر أم لم يحضر.ونقل زوار عن سلامة أن التحقيقات معه التي تنطلق من ملف «فوري»، ستتوسع لتشمل أموراً خاصة بعمل مصرف لبنان، وهو «لا يريد مناقشة ملفات المصرف المركزي مع القضاء الأجنبي»، خصوصاً أن «لديه الوثائق الكافية لتأكيد إنه لم يقم سوى بتنفيذ السياسات الحكومية». وأعرب سلامة عن اعتقاده بأن هناك ضغوطاً عليه للموافقة وتسهيل توقيع الحكومة برنامج العمل مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يراه «في غير مصلحة لبنان والقطاع المصرفي».

الدولة تهمل مئات الملايين
في غضون ذلك، نشرت الوكالة الوطنية للإعلام خبراً عن تقدّم الدولة اللبنانية ممثلةً برئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل بادعاء شخصي في حق كل من سلامة وشقيقه رجا ومعاونته ماريان الحويك وكل مَن يظهره التحقيق، تبعاً لادعاء النيابة العامة الاستئنافية في بيروت بموجب ورقة الطلب المقدّمة إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت بجرائم الرشوة والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي. وطلبت توقيفهم والحجز على أموالهم وأموال عائلاتهم وتجميد حساباتهم.
لكن اتضح أن الخبر المنشور ليس دقيقاً، وحصلت «الأخبار» على نسخة من الكتاب الذي وجهته اسكندر إلى وزير المال يوسف الخليل باعتباره وزير الوصاية على مصرف لبنان، ويفترض أن تلجأ إليه لمنحها الموافقة على الادعاء. وأتى الكتاب تحت عنوان «بيان الرأي بشأن اتخاذ الدولة اللبنانية صفة الادعاء الشخصي في التحقيق الذي تجريه القاضية أود بوروزي المكلفة بإجراء التحقيق في الدعوى الشخصية المقدمة من «تجمع ضحايا الممارسات الاحتيالية والجنائية في لبنان» وجمعية «شيربا» الفرنسية (متخصصة في الدفاع عن ضحايا الجرائم الاقتصادية) بحق الأوكرانية آنا كوزاكوفا (والدة ابنة سلامة) إلى النيابة العامة في باريس. ووفق ما ذكرته اسكندر، فإن مبادرتها إلى إرسال الكتاب جاءت على خلفية دعوة موجهة من بوروزي إلى الدولة اللبنانية (مرفقة في الكتاب) لاتخاذ صفة الادعاء الشخصي منذ تاريخ 23/1/2023 والتي أحيلت إلى هيئة القضايا بالتسلسل من النائب التمييزي بتاريخ 20/2/2023 ومن وزير العدل بتاريخ 13/3/2023. ومع وصول الدعوة إلى اسكندر قبل يومين، بادرت بالطلب من وزير المال إبداء رأيه بشأن اتخاذ قرار الادعاء في التحقيق الفرنسي. وطلبت منه الاطلاع وإيداعها الجواب إليها بأقصى سرعة ممكنة، خصوصاً أن «هيئة القضايا تنوي حضور جلسات الاستماع المزمع عقدها من قبل قاضي التحقيق الأول في بيروت بحضور الوفد القضائي الفرنسي ابتداء من 15/3/2023 ليتسنى لنا ممارسة واجباتنا بالمحافظة على حقوق الدولة اللبنانية». وختمت بأن «من الواجب الادعاء أمام قاضي التحقيق في فرنسا لكي تحفظ الدولة اللبنانية حقوقها، لأنه في حال عدم الادعاء فإن التعويضات ستكون من حق الجمعيتين اللتين تقدمتا بالادعاء أمام المدعي العام الفرنسي كما أبلغتني بوروزي قبل جلسة الاستماع». إذ أبلغت القاضية الفرنسية اسكندر بضرورة تحرّك الدولة اللبنانية بصفة شخصية لتتمكن من الحصول على الأموال المحجوزة في الخارج، وإلا ستستفيد منها الجمعيتان اللتان حركتا الدعاوى. ويرأس تجمع المتضررين اللبناني عزيز سليمان، فيما تتمثل جمعية «شيربا» غير الحكومية بمؤسسها المحامي وليم بوردون.
وحتى مساء أمس، لم يكن وزير المال قد ردّ على كتاب القاضية اسكندر. علماً أنها ليست المرة الأولى التي تتحرك فيها اسكندر بغية استرجاع الأموال المحجوزة في الخارج نتيجة عمليات تبييض الأموال في ملف سلامة، إذ سبق أن وجهت كتاباً إلى وزير المال في 30/3/2022 تعلمه فيه بكتاب مدعي عام التمييز الموجه إليها حول تجميد أموال عائدة لسلامة في إطار التحقيقات في عدد من البلدان الأوروبية: في سويسرا بقيمة 50 مليون دولار، وفي لوكسمبورغ بقيمة 11 مليون يورو، وفي فرنسا بقيمة 64.2 مليون يورو، وفي ألمانيا بقيمة 35 مليون يورو، وفي بلجيكا بقيمة 7 ملايين يورو. وطلبت رئيسة هيئة القضايا من وزير المال تكليف محام لمعاونتها للتقدم بطلب تجميد وحجز الأموال العائدة لكل من حاكم مصرف لبنان وشركائه في لبنان، ومعاونتها في استرجاع هذه الأموال ومصادرتها. إذ إن هذه الأموال «تعود للدولة اللبنانية في حال ثبوت الجرائم ويقتضي تكليف محام وفقاً لما تفرضه الأصول القانونية للتقدم بطلب حجز لمصلحة الدولة للحؤول دون مصادرتها من قبل الدول الأجنبية التي تلاحقه قضائياً».
وبعدما تمنع وزير المال عن الرد، أحالت اسكندر الكتاب إلى وزير العدل هنري خوري «رفعاً للمسؤولية عن هيئة القضايا الممثلة القانونية للدولة اللبنانية أمام المحاكم في لبنان والخارج، ولاتخاذ ما يراه مناسباً من ضمنه عرضه على مجلس الوزراء لاتخاذ قرار بشأن الادعاء على حاكم مصرف لبنان ورفاقه الملاحقين في أوروبا». وقد أرسل خوري طلب عرض الأمر على مجلس الوزراء إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء التي أعادت الكتاب إلى وزير العدل لاستكمال الملف كما تفرضه الأصول، أي عبر استطلاع رأي المالية باعتبار أن الملف يستوجب نفقة تتمثل بأتعاب المحامين.
وقد مضى عام على تجاهل وزير المال وكل المسؤولين من رئيس الحكومة إلى رئيس مجلس النواب إلى الوزراء والنواب والأحزاب لهذا الأمر، رغم أن المبلغ المجمّد بات يتجاوز الـ300 مليون دولار، أحوج ما تكون إليها الدولة المفلسة. ولا يُتوقع أن يردّ وزير المال على كتاب اسكندر الأخير ليبدّد ملايين الدولارات، ربما حفاظاً على مشاعر سلامة عبر عدم السماح للدولة بالادعاء عليه في الخارج.