دُعيت سيدة إلى مكتب الاستجواب، كونها جزءاً من تحقيق في جريمة قتل. أمضى المحقّق الدقائق العشرين الأولى محاولاً تهدئتها، إلا أنها أصبحت أكثر توتراً حتى قبل أن يطرح أي سؤال حول القضية. كانت تلمس وجهها باستمرار، وتمسك بين حين وآخر بعقد يلفّ رقبتها، وتفرك يديها عدة مرات. أخيراً سألها المحقق: «يبدو أنكِ بحاجة إلى قول شيء ما»، فأجابت: «نعم، شكراً لك. عندما وصلت، كان لا يزال هناك ثلاثون دقيقة قبل انتهاء الدوام في مدرسة ابني، وأحتاج إلى توصيله إلى المنزل، وإلا سينتظر في الشارع». كان للمحقق أن يحكم، بأن سلوكيات السيدة تشير إلى أنها لا تقول الحقيقة. وقد تبيّن لاحقاً، بالفعل، أن لا علاقة لها بالجريمة، وأن عدم ارتياحها سببه القلق على ابنها.

سواء كان المحقق يتعامل مع صادقين أو كاذبين، سيرى منهم سلوكيات تدل على عدم الراحة النفسية. الأمر الوحيد الذي يمكن للمحقق المحترف القيام به هو محاولة تحديد سبب هذه السلوكيات، من دون الحكم مسبقاً على أنها تشير إلى الخداع، لأن العلم لا يدعم مثل هذه الفرضيات.

تهدئة المشتبه فيه
من الأمور التي يفترض بالمحقق القيام بها لجعل المشتبه فيه هادئاً خلال الاستجواب، أن يقول له، مثلاً: «أنظر، أنا المحقق في هذه القضية، ومن الواضح أنك هنا لسبب ما». نغمة الصوت الهادئة والمنخفضة أساسية للتأكد من أن المشتبه فيه بدأ في الاسترخاء على مستوى اللاوعي.
ما يحتاجه الاستجواب الفعّال هو شخص أكثر هدوءاً، ليكون قادراً على تذكّر كل ما حدث. عندما يمارس المحقق ضغوطاً، فإنه يؤثر في ذاكرة المشتبه فيهم. في مثال بسيط، عندما نشعر بالتوتر نعجز عن تذكّر أين وضعنا المفاتيح.
لذلك، فإن المحقق المهني يسعى إلى تهدئة المشتبه فيه، فلا يجلس قربه، بل يضعه قرب الباب، لأنه يعلم أن انتهاك المساحة الشخصية قد يجعله متوتراً، لذلك عليه أن يكون بعيداً منه بين 4 و 5 أقدام، وهو أمر غير معتاد حقاً. لأننا، بحسب ما نراه على شاشة التلفاز، اعتدنا رؤية المحقق قريباً جداً من المشتبه فيه.
ولِجعل المشتبه فيه أكثر استرخاءً، يُقلل المحقق الناجح أيضاً من التواصل البصري الذي يُعدّ من الأمور المخيفة أثناء التحقيق. بعد ذلك قد يقوم المحقق بالزفير بطريقة لافتة أثناء النظر إلى الملاحظات، فعلى مستوى اللاوعي، قد يكرر المشتبه فيه حركة الزفير تلك، مما يساعد في استرخائه وتعزيز الثبات الداخلي Homeostasis لديه.

خلق الانزعاج
هل هناك أوقات نحتاج فيها إلى خلق ضغط نفسي على المشتبه فيه؟ الدراسات الحديثة لا توصي بذلك. بمجرد إنشاء ضغط نفسي، سيستغرق ساعة على الأقل لإعادة المشتبه فيه إلى حالته الطبيعية. فتصعيد الموقف لن يفيد أي شخص (المشتبه فيه/المحقق). ما يحصل فعلياً هو خروج المحقق عن مساره كمحاور لدرجة أنه قد يصبح محبطاً أكثر فأكثر، لا سيّما عندما يتمسك المشتبه فيه بسرد القصة نفسها، فيبدأ صبر المحقق بالنفاد، ويكون مضطراً إلى إنهاء المقابلة لأنه في تلك المرحلة يصبح غير قادر على التفكير بوضوح. علماً أن تكرار القصة نفسها من قِبل المشتبه فيه قد يكون في بعض الحالات متسقاً مع ما حدث بالفعل.

المفاهيم الخاطئة عن الكذب
إذا لمس المشتبه فيه أنفه أو فمه أو حتى سعل، فهذا يعني أنه كان يكذب. إذا طلب المشتبه فيه شربة ماء أو إذا نظر إلى أعلى أو تلفّت يساراً ويميناً، فإنه يخترع إجابة ما. وحقيقة الأمر أن هذا كله غير منطقي وغير علمي. فهناك عدد من التصرفات التي يقوم بها المشتبه فيهم، من لمس الوجه إلى الاستنشاق وما إلى ذلك، وقد تدرب المحققون على أنها تشير إلى الخداع.
لكن أثبتت بعض حالات «تبرئة الحمض النووي» DNA exoneration في العقود القليلة الماضية في جميع أنحاء العالم، لمشتبه فيهم حُكم عليهم بالإعدام، أن لا علاقة لهم بالجريمة. والمحزن، في كل حالة على حدة، أنه لم يتمكن أي ضابط شرطة أو محقق أو مدع عام من اكتشاف الحقيقة، لكنهم جميعاً ادعوا أنهم قادرون على اكتشاف الخداع.
يمكن للمحقق أن يقبل قصة المشتبه فيه كما رُويت، لكن المحقق المحترف يبذل جهداً للتشكيك بها والتأكد من صحتها


الأمر الآخر المثير للاهتمام أن بعض المشتبه فيهم كانوا على استعداد للاعتراف بجريمة ما، فقط لوقف عملية الاستجواب. هذا يعني أن في تلك المقابلات/الاستجوابات، التي تمّت على مدار ساعات، تحت الكثير من الضغط النفسي، والكثير من التهديد، كان المشتبه فيهم في النهاية على استعداد للقول بينهم وبين أنفسهم: «حسناً، سأعترف بذلك، رغم أنه قد يكلفني حياتي».

«خير الكاذبين»
الكاذبون الأكثر فاعلية هم الأشخاص الذين عادة ما يكذبون، ويمكنهم سرد قصص مقنعة للغاية. وإذا طرح المحقق سؤالاً، فإن إجاباتهم تكون شديدة الانسيابية. الأمر الوحيد الذي يمكن للمحقق القيام به لحماية نفسه من الخداع هو «ما يقال؟ وما هو الدليل؟». عندما يبدأ المحقق في الاستفسار حول القصة التي سردها المشتبه فيه، قد تبدأ الأحداث المفبركة بالانهيار، أو قد تسبب عبئاً معرفياً على المشتبه فيه. كأن يقول المحقق: «حسناً، أنت تقول إنك ذهبت إلى فرنسا، عبر أي مطار؟»، عندها يقول المشتبه فيه: «اممم ، كما تعلم»، ثم «يكافح» من أجل الخروج بإجابة.
من المفترض أن تثير الأسئلة البسيطة إجابات بسيطة، وعندما تخلق عبئاً معرفياً، فهذا لا يشير إلى الخداع، ولكن من المفترض أن تجعل المحقق يتساءل بالتأكيد: «هل هناك خطأ ما هنا؟». ويمكن للمحقق أن يقبل قصة المشتبه فيه كما رُويت، أو بذل جهد للتساؤل عنها أو التشكيك بها للتأكد من صحتها.