«وفاة والدة اللاعب في المنتخب المغربي سفيان بوفال»، عيّنة من آخر الأخبار المضلّلة التي شغلت مواقع التواصل الاجتماعي لأيام، إذ لم يعد مفهوم الشائعات والأخبار المفبركة محصوراً بالإطار الضيّق لوسائل الإعلام التقليديّة، بل تعداه ليصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. الأخبار المزيّفة والمعلومات المضلّلة والفيديوهات والصور المفبركة تشكل اليوم جزءاً كبيراً من محتوى الإنترنت، إلى حدّ باتت تؤثر بشكل مباشر على الأشخاص، ولا سيّما خلال جائحة كورونا وانتشار معلومات مضلّلة للوقاية والعلاج من الإصابة.
يُعدّ إنشاء محتوى معلومات مزيّف ونشره وتداوله بهدف تضليل الجمهور عبر استخدام التقنيات والبرمجيات الحديثة سبباً كافياً لشعور النّاس بالقلق، وذلك لإمكانية استخدام مقاطع الفيديو أو ملفّات الصوت المزيّف لنشر أخبار مفبركة ومعلومات مضلّلة أو تعزيز حالة من الاضطرابات والفوضى على أكثر من مستوى.


يستهلك العديد من الأشخاص في وقتنا الحالي الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعي والمصادر الأخرى عبر الإنترنت، لكن ليس من السهل دائماً تمييز الأخبار الموثوقة من الكاذبة. ولا يزال هناك سوء فهم شائع بين الناس، بأنّ انتحال الهوية أو تزييفها لا يمكن أن يكون مقنعاً مثل الواقع الحقيقي، وهذا غير صحيح بتاتاً في عالم اليوم، حيث نعيش في وقت تصعب فيه التفرقة حرفياً بين الحقيقة والخيال، من مئات ملايين الملفّات الشخصيّة المزيّفة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الانتشار المقلق للأخبار المزيّفة والارتفاع المستمرّ لهجمات التصيّد الاحتيالي وهجمات الهندسة الاجتماعيّة.

الذكاء الاصطناعي لتشويه الحقيقة
تتسلّل تقنية التزييف العميق العالية الجودة إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل TikTok، Twitter، Youtube وFacebook. ويتمّ إنشاؤها من خلال تقنية التعلّم العميق (Deep Learning) للذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، والتي على سبيل المثال تستبدل صورة الشخص بنسخة رقمية متماثلة، يمكنها محاكاة الكلام والأفعال والعواطف، وهي تختلف عن تقنيّات الفوتوشوب وبرمجيّات تركيب الصّور والمقاطع العاديّة، وتستخدم عادةً لخدمة أهداف وقضايا ذات تأثيرات وأرباح ماديّة أكبر، كقضايا الابتزاز المتعلّقة بالجماعات السياسية والنزاعات والحروب بين الدّول. وتكمن أيضاً الخطورة في استخدام وسائل الإعلام لهذه التقنيّات من أجل نشر أخبار مضلّلة وصناعة رأي عام مشوّه وتحريف الوعي لدى الجماهير.

اكتشاف ومكافحة المحتوى المزيّف
تبتكر شركات الأمن السيبراني خوارزميات Algorithms أكثر تطوراً وقدرة على اكتشاف أي تزييف بشكل فعّال، وتعمل هذه الخوارزميات باستخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعي على تحليل مقاطع الفيديو والصور لاكتشاف أي تحريفات أو تشوّهات صغيرة، أو تفاصيل دقيقة تحدث أثناء عملية «التزييف». فعلى سبيل المثال، تقوم برمجيات الـ«ديب فايك» الحالية بصنع وجه ثنائي الأبعاد ثم تعدّل عليه ليتناسب مع المنظور الثلاثي الأبعاد لمقطع الفيديو.
لا تزال مقاطع الفيديو والصوت التي تفبركها برامج الـ«ديب فايك» في مرحلة يمكن فيها اكتشاف زيفها من قِبل الخبراء المتمرّسين في مجال الذكاء الاصطناعي. لكن مع تطوّر التقنيّات وتقدّم أداء المبرمجين ومجرمي الإنترنت، ستقلّ القدرة على اكتشاف العيوب بسهولة، وستزداد أهمية برامج الأمن الإلكتروني المتطوّرة.

تقنيّات مضادّة
توجد حالياً تقنيات ناشئة تساعد المشاهدين أو صانعي مقاطع الفيديو على التأكد من صحّة هذه المقاطع أمامهم، ويمكن استخدام خوارزمية تعمية Encryption لتجزئة مقاطع محددة من الفيديو، وبالتالي يمكن اكتشاف تغيّر بعض العلامات في حال التلاعب بالفيديو الأصلي. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسجّل بصمة رقمية مقاومة للعبث بمقاطع الفيديو، وهذه مشابهة للعلامات المائية Watermark في المستندات المطبوعة.
بعض الجوانب والدوافع الأساسيّة لاستخدام «التزييف العميق» Deepfake
• الجانب الابتزازي الإباحي: يتمّ من خلال تقنية الـ«ديب فايك» تركيب عدّة فيديوهات للأشخاص المستهدفين وهم في مواضع حميميّة أو خادشة للحياء العام، ويتمّ ابتزازهم فيها أو نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف الانتقام أو الابتزاز المادّي أو العاطفي. وقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2018 مئات الفيديوهات المفبركة بهذه الطريقة لعدّة أشخاص ومنهم مشاهير.
• الجانب السياسي: استخدمت تقنيّات الـDeepfake أخيراً على سبيل المثال مع عدّة رؤساء وشخصيّات في العالم مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون وغيرهما من الزعماء السياسيين في العالم وشخصيّات أخرى من مختلف المجالات، حيث استخدمت بعض الجهات هذه التقنيّة لتشويه سمعتهم أمام الرأي العام. وفي حالات أخرى، تشكّل سلاح بروباغندا فعّالاً وجزءاً من جهاز دعاية في زمن الحرب من أجل إظهار بعض الأحداث والتعمية على أخرى لقلب الحقائق وإخفائها عن النّاس (مثل تداول الصور والمقاطع غير الحقيقية من الحرب في أوكرانيا أو في سوريا).
• الجانب السياسي الاجتماعي والإعلام: حيث تساهم المحتويات الزائفة من فيديوهات وصور وخطابات وبيانات، وتكون بأغلبها موجّهة عمداً من قِبل الإعلام أو جهات أخرى، في التلاعب بوعي الجمهور المتلقّي وإثارة حالة من الاضطرابات من أجل تحقيق مآرب عديدة. (مثالاً على ذلك عندما تداول ناشطو وروّاد التواصل الاجتماعي مقطعاً يظهر سقوط صاروخ لحظة انفجار مرفأ بيروت في عام 2020).
• الجانب المادّي والاستهداف بغية السرقة: يطوّر العديد من مجرمي السايبر وقراصنة الإنترنت أساليبهم فيلجأون إلى تقنيّات الذكاء الاصطناعي المتقدّمة، ومنها برمجيّات التلاعب بالصوت والفيديو لسرقة حسابات مالية لشركات ومصارف ومؤسّسات حكومية، وعادةً ما تستهدف هذه الهجمات كيانات كبيرة عوضاً عن الأفراد، في ما يُعرف بهجمات الهندسة الاجتماعيّة (حيث يمكن للمجرم انتحال صفة شخصيّات موثوقة في مؤسّسة ما وكسب ثقة موظّفيها لتنفيذ عمليّته).
الحماية من الاستهداف والتنبّه للمحتوى الزائف عبر الإنترنت
يحتاج الناس إلى التدريب المناسب على كيفية التعرّف إلى التزييف العميق. سيحتاج خبراء المعلوماتيّة أيضاً أن يكونوا قادرين على تحديد هذه التهديدات بشكل فعّال للمساعدة في حماية الأشخاص في فضاء الإنترنت.
• الشكّ في كلّ ما نتلقّاه عبر الإنترنت من محتويات مرئية ومسموعة أو مكتوبة، فكلّ شيء نراه قابل أن يكون مزيفاً أو غير حقيقي.
• التفكير دائماً في مصدر المعلومة ومن قائلها وعمّن يقولها ولماذا، هذه إحدى الطرق البديهيّة والمتاحة حتى لغير الخبراء. وللتأكّد من أنّ المحتوى حقيقي أم مزيّف، يشدّد خبراء الأمن السيبراني على عمليّة التحقّق دائماً من مصادر المعلومات لكشف الحقيقة وعدم الاكتفاء بتصديق ما يبثّ من محتوى، ولو كان مقدّماً بطريقة محترفة ومبهرة ومتداولاً على صعيد كبير.
• الاهتمام بنشر التوعية كلّ بما يملك: من المهمّ اطلاع النّاس من حولنا على كلّ ما نعرفه عن هذه التقنيات والبرمجيّات وعن فكرة التحقّق من مصدر المعلومة وعدم الانجرار وراء الترند ولو وقع فيه بعض الأشخاص «المؤثّرين» أو «الحسابات الموثوقة» في منصّات التواصل الاجتماعي.
• عدم استخدام تقنية المحادثة المرئية عبر الفيديو مع أشخاص لسنا متأكّدين من حقيقة هويتهم: المكالمات المصوّرة أو المرئية هي أسهل طريق يستطيع من خلالها مجرمو الإنترنت جمع صورة وصوت وتفاعل وردود فعل الشخص المستهدف. لذلك كلما كان تواصل الشخص من خلال المرئي أقلّ كانت فرصة الابتعاد عن الوقوع في الفخّ أكبر.
مع تطوّر التقنيّات وتقدّم أداء المبرمجين ومجرمي الإنترنت ستقلّ القدرة على اكتشاف العيوب بسهولة وستزداد أهمية برامج الأمن الإلكتروني المتطوّرة


• التوجّه إلى مراكز الاختصاص وخبراء المعلوماتيّة واللجوء إلى الجهات الأمنيّة المختصّة وأجهزة إنفاذ القانون في حال وقع الشخص ضحيّة عملية ابتزاز استُخدمت فيها تقنيّات تزييف.
• استثمار الشركات لبرامج كشف حقيقة المحتوى المزيّف من السليم ونشرها بين كلّ مستخدمي الإنترنت في المجتمع. في تلك الحالة تنجح الشركات في أن تقدم الأفضل للمجتمع ضمن المسؤولية الاجتماعية المفروضة عليها، خاصة عند الحديث عن الشركات المتعلقة بالبرمجة والإلكترونيات.
• عدم التفاعل والانجرار خلف المحتويات الجنسية الإباحية ولا الدخول إلى الروابط الإلكترونية التي تقدّم محتوى إباحياً عبر الشبكة لأنّ هذه الصفحات والمواقع هي الأكثر تعرّضاً لاختراقات وثغرات إلكترونية (كرسائل التصيّد الاحتيالي) من شأنها إسقاط الأشخاص الذين يتفاعلون معها. لذلك، كلما كان الشخص بعيداً عن الأماكن الخطرة حفظ سلامته عبر المواقع الإلكترونية.
نستطيع القول إنّ الغريزة الإنسانيّة قد تدفع الشخص للاعتقاد بأن شيئاً ما صحيح إذا كان «يبدو صحيحاً». يشير ذلك إلى أنّ العديد من النّاس سيميلون إلى الاعتقاد بأن ما يرونه هو الحقيقة وأنّ مقاطع الفيديو والصّور التي يتصفّحونها يومياً حقيقية. في المستقبل القريب، قد تحلّ كوارث عديدة إن لم يتنبّه الناس -ومن خلفهم الخبراء- من خطر استعمال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في عمليّات قد تؤدّي إلى عواقب خطيرة في عالم تختلط فيه الحقيقة بالوهم!



DEEPFAKE: التزييف العميق
تقنية الديب فايك Deepfake "التزييف العميق": هي تقنية متقدّمة تستخدم الذكاء الصناعي، تتيح للبرمجيّات التلاعب بمضمون المحتوى لتشكيل مجموعة صور ومقاطع فيديو ومقاطع صوتيّة مزيفة لأشخاص أو أحداث بطريقة احترافية وبجودة عالية يصعب اكتشافها بـ"العين المجرّدة" أو بالتقنيّات العادية لتحليل المقاطع. تُستخدم هذه الطريقة في عدّة مجالات ولعدّة أسباب ولتحقيق أهداف متعدّدة.
تصيّد احتيالي Phishing: هجوم يهدف إلى الحصول على معلومات ووثائق خاصّة وحسّاسة من المستهدف ككلمات مرور أو أرقام حسابات ماليّة غالباً لدوافع جرميّة، وذلك من خلال التنكّر بهيئة كيان جدير بالثّقة.
هجمات هندسة اجتماعية Social Engineering: هي هجمات تعتمد أساليب مخادعة وملتوية كانتحال صفة أشخاص موثوقين لحثّ الكيان المستهدف على إفشاء أسرار أو معلومات خاصّة يستفيد منها المهاجمون لتحقيق أهدافهم.
التعلّم العميق أو التعلّم الآلي (Deep Learning/ Machine Learning): عملية تتيح للآلات أو الروبوتات التعلّم الذّاتي محاكاةً للتفكير والعقل البشري في التعامل مع تكنولوجيا المعلومات في مختلف مجالاتها.