أُقفل ملفّ تشييد مخزن اللّقى الملوّثة إشعاعيّاً في جرود بلدة نحلة البقاعيّة على عجل. مؤتمر صحافي في مجلس النّواب للنائبين حسين الحاج حسن وغازي زعيتر الأربعاء الماضي، فاعتصام في البلدة الخميس، تحوّل بعدها قرار المجلس الأعلى للدفاع إلى فكرة على ورقة، لا تجد لها أرضاً للتنفيذ.لكن القضيّة لم تنتهِ هنا. إذ لا تزال المشكلة قائمة، بوجود اللّقى في مقر الهيئة الوطنية للطاقة الذرية على طريق مطار بيروت، مكدّسة في مخزن مؤقّت، في انتظار نقلها إلى المخزن الدائم، كما تستلزم البروتوكولات والإجراءات التي وضعتها الوكالة الدولية للطاقة الذريّة لكلّ دول العالم.
في العام 2012، أُحبطت المحاولة الأولى للهيئة لإنشاء المخزن الدائم في ثكنة للجيش في عدلون الجنوبيّة بفعل المناخ الشعبي الذي رافق الإعلان غير الرسمي عن المشروع، الذي بدأ فعلاً بعد حرب تمّوز 2006. بعد انفجار مرفأ بيروت، فتحت الهيئة الملفّ مجددّاً، هذه المرّة من بوابة المجلس الأعلى للدفاع أيام حكومة الرئيس حسّان دياب.
أكثر من ثلاثة اجتماعات في المجلس، وعشرات غيرها بين ممثّلي الهيئة ورئيسها الدكتور بلال نصولي مع الأجهزة الأمنية والعسكرية والرسمية، ليصار بعدها إلى إقرار المشروع في المجلس، بموافقة الوزراء المعنيين وقادة الأجهزة الأمنيّة. وكان من المفترض أن تُشكّل لجنة علمية من الهيئة والجيش اللبناني وخبراء من وكالة الطاقة الدولية لبدء الدراسات الزلزالية والبيئية والأمنية للأرض، ومن المتوقّع أن يستمر عمل اللجنة بين تسعة أشهر إلى سنة، قبل البدء بتنفيذ المشروع، في حال حصل على التمويل اللازم.
وتوجد الآن عشرات اللّقى في مقرّ الهيئة، وهي موضّبة ومغلّفة بطبقة عازلة من مادة الرصاص داخل غرفتين مخصصتين ومصممّتين من قبل الوكالة الدولية، ولا تتجاوز حمولة «ربع كونتينر». وتُعرف هذه القطع باللّقى اليتيمة، لأنها مجهولة المصدر. بحسب موقع اللجنة الأميركية لتنظيم المواد النووية، فإن «اللّقى اليتيمة» هي إجمالاً مواد صغيرة تعرّضت للإشعاعات غير مرغوب فيها، وموجودة في أماكن غير مسيطر عليها وتشكّل خطراً على الصّحة العامة ولا يوجد طرف يتحمّل مسؤوليتها، أو تلك المسيطر عليها، إن كانت مرخّصة أو غير مرخّصة، لكن الأسباب الأمنية تحول دون ضمان أمنها، أو إن كانت في حوزة أشخاص أو جهات غير مرخّصة، أو قد تكون في حوزة دولة لأجل أغراض بحثيّة، وهذه المواد تعرّضت للخطر أو لا تستطيع الدولة ضمان حيازتها وتخزينها.
في حالة لبنان، فإن 90% من هذه المواد الموجودة وصلت إلى البلد عبر تهريب الحديد والخردة التي يتمّ تجميعها في ورشات الخردة ليتم لاحقاً تصديرها بعد فرزها إلى تركيا أو الصين لإعادة تدويرها. ومن بين الموجودات، معادن من حطام مستشفيات في سوريا والعراق ولبنان، وقطع عسكرية مثل ساعات أو مُوجهات دبابات أو أسلحة أخرى. أما المواد الإشعاعيّة الأخرى التي دخلت البلاد بطريقة نظاميّة منذ عشرات السنين، فإن من يحوزها يقدّم سنوياً تقريراً عن وضعها، ولا يمكن التصرّف بأي منها قبل مراجعة الهيئة، كما يجزم نصولي.
الخطر الحقيقي عمليّاً، ليس في المواد بحدّ ذاتها. فخبراء هيئة الطاقة وغيرهم من الخبراء يتنقّلون بينها ليل نهار من دون أن يتّخذوا إجراءات وقائية كونها أصلاً موجودة داخل الأغلفة الرصاصية العازلة. إنّما تبقى المشكلة الفعلية في احتمال وقوعها بين أيدي منظمات إرهابية. إذ بإمكان الإرهابيين تحويلها إلى خطر حقيقي في حال تمّ إنتاج قنبلة قذرة، تسبب تلوّثاً إشعاعيّاً واسع النطاق، أو قيام العدوّ الإسرائيلي باستهدافها.
الدولة غير قادرة على إقناع شعبها بأي خطط علميّة، مع غياب الثّقة وسوء الإدارة


والخطر أيضاً، في حال عدم إنشاء المخزن الدائم، هو في توجّه الوكالة الدولية للطاقة الذريّة إلى وضع قيود على لبنان تمنع استيراد المعدات والأجهزة الطبية والعلميّة بحجّة أن البلد لا يوجد فيه مخزن للّقى الملوّثة، وأنه يشكّل مصدراً لتهريب هذا النوع من النفايات، كما قد تتأثّر مستقبلاً الجامعات التي تخطّط لإنشاء مختبرات للأبحاث النوويّة.
هكذا، يتكشّف عري الدولة اللبنانية والمجتمع اللبناني مرّة جديدة، فتظهر الدولة كدولة فاشلة غير قادرة على إقناع شعبها بأي خطط علميّة، مع غياب الثّقة وسوء الإدارة والتجارب السيئة المتراكمة، ويظهر المجتمع منشدّ للعصب المناطقي والطائفي أكثر منه إلى الحاجة الوطنية. إذ أنه من الآن وصاعداً، وفي حال قرّرت الهيئة إقامة المخزن في أي منطقة لبنانية، فإن الاعتراض سيتحوّل إلى اعتراض مناطقي أو حتى طائفي، على المستوى السياسي أو الشعبي. فأهالي البقاع الشمالي، يعتبرون أن الدولة لا تفكّر بمنطقتهم إلّا عند الحاجة الكبيرة، وهذا صحيح. إذ أن الدولة غائبة عن المنطقة، لكنّها تحضر بمشروع إنشاء المخزن ومن دون تنسيق مع الجهات الرسمية المحليّة كالمحافظة أو البلدية، بينما عمليّاً تشكّل السلسلة الشرقية للبنان المكان الوحيد المناسب لإنشاء مخزن من هذا النوع، نظراً لعمقها ومساحتها. وعلى القاعدة نفسها، قد يجد أهالي المناطق الأخرى، عشرات الأسباب لرفض تشييد المخزن.