في لحظة قاتمة، خرجت رصاصة طائشة من بندقية صيد تسبّبت بمقتل شاب في العشرين من عمره. لم تكن جريمة مكتملة العناصر، فالقاتل قريب للمجنيّ عليه وصديقه منذ الطفولة. وقعت الجريمة ذات صباح، من دون نيّة جرمية معقودة.في مشهد آخر، تسبّبت الأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان منذ عام 2019 في خلافات حادّة بين أحمد وحسان، الصديقين اللذين أسّسا قبيل الأزمة شركة تجارية للاستيراد والتصدير. ساهم أحمد، وهو مغترب في إحدى الدول الأوروبية، في تمويل الشركة، فيما تولى حسان إدارتها في لبنان. مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، أدّت المشاكل المالية في الشركة إلى اضطراب العلاقة بين الشريكين، وتصاعد التوتر بينهما، حتى قرّرا، منتصف عام 2022، وقف عمل الشركة، ولكن من دون إجراءات قانونية لتصفيتها. مذّاك، فُقد التواصل بينهما، ويحمّل كل منهما الآخر مسؤولية الفشل.

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

أكثر من مرة حاولت نور تثبيت طلاقها في المحاكم الشرعية، بعد ثلاث سنوات على وقوعه، لكنها لم تفلح في انتزاع توقيع طليقها الذي يساومها تارة على مهرها، وتارة أخرى على التنازل عن طفليها وحرمانها من حق الرؤية.
كثيرة هي النزاعات التي تحتاج إلى حل في لبنان. وتتكدّس الملفات أمام القضاء اللبناني في ظل اعتكاف القضاة عن العمل. أمام هذا الواقع المأزوم، يختار عدد كبير من المتخاصمين تجميد خلافاتهم في انتظار عودة الحياة إلى قصور العدل، فيما ينحو آخرون إلى أن الحق لا يُنال إلا باليد ولا يمكن التعويل على حقوق تؤخذ على مضض بعد سنوات من المحاكمات. وبين هذا وذاك، تبرز الوساطة كوسيلة بديلة لحلّ النزاعات، تستند فيها الأطراف المتنازعة إلى طرف ثالث محايد (الوسيط) يتولّى التواصل والتفاوض لحلّ النزاع.
رئيسة لجنة الوساطة في نقابة المحامين رئيسة مؤسّسة المركز اللبناني للوساطة والتوفيق (LAMAC) المحامية منى حنا تعرّف الوساطة بأنها «طريقة سلمية حبّية لحل الخلافات، تعطي الحق لأطراف نزاع حالي أو مستقبلي بالاتفاق على تعيين وسيط - حيادي، مستقل ومتخصّص - يساعدهم على التوصل إلى حل يضعونه بأنفسهم ويكرسونه بموجب عقد يراعي القوانين الإلزامية والنظام العام. والوساطة تقنية سرية، سريعة، تحافظ على استمرارية العلاقات مستقبلاً، كما أن اللجوء إليها هو فعل إرادي بحت». وتلفت إلى أن «أهمية الوساطة تزداد اليوم في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها. ومع الكم الهائل من القضايا العالقة أمام القضاء، تعطي الوساطة فرصة للمتخاصمين لحل مشاكلهم ونزاعاتهم في أقل وقت ممكن».

الوساطة في القانون اللبناني
يوجد في لبنان إطاران تشريعيان يحكمان موضوع الوساطة:
قانون الوساطة القضائية الذي صدر في 10 تشرين الأول 2018، وهو يدعو إلى حل النزاعات سلمياً بين الفرقاء، ويقدم للمتخاصمين حلولاً بديلة لفضّ النزاعات، علماً أن الوساطة القضائية هي تلك التي يتم اللجوء إليها لحل نزاع ما بعد إحالته إلى المحكمة، إضافة إلى التحكيم المنصوص عنه في قانون أصول المحاكمات المدنية.
تتم الوساطة القضائية في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ويمكن إجراؤها في كل أنواع النزاعات التي يجوز الصلح فيها، بما لا يتعارض مع مقتضيات النظام العام وأحكام القوانين النافذة، بمعنى أن القانون الرقم (82) اقتصر على الوساطة التي تقررها المحاكم بعد إحالة النزاعات أمامها، ولم يرع حالة اتفاق الفرقاء السابق لأي نزاع أمام القضاء باللجوء إلى الوساطة، في ما يعرف عالمياً بالوساطة الاتفاقية أو التعاقدية.
وفي عام 2022 صدر قانون «الوساطة الاتفاقية»، استكمالاً للتشريع الأول وأتاح لكل متخاصمين في مختلف المجالات فرصة اللجوء إلى الوساطة لحل نزاعاتهما بعيداً عن مماطلة المحاكم وهدر الوقت، وحدد أصول الوساطة وكل التفاصيل المتعلّقة بمراحلها وآليات تنفيذها ودور الوسيط ومهماته الأساسية.

من هو الوسيط؟
الوسيط هو كل شخص يتولى عملية الوساطة بين أطراف النزاع، ويشترط أن يرافق الفرقاء من أجل التوصل إلى نتيجة تتلاءم مع مصالحهم وحاجاتهم، ضمن مهلة محددة بإرادة الفرقاء بموجب العقد أو الاتفاق، أو عند بدء الوساطة. يتم اختيار الوسيط من ضمن لائحة الوسطاء في وزارة العدل أو من خلال مركز الوساطة المعتمد من الوزارة.
يسهّل الوسيط التواصل بين الفرقاء ليساعدهم من خلال تقنيات الوساطة على إيجاد الحل الأنسب لجميع الفرقاء، كما يؤمّن انخراط ومشاركة الفرقاء المنصفة والفعّالة، ويلتزم بأن يكون على مسافة واحدة من الجميع، وهو يستمع إلى كل فريق على حدة بعد أخذ موافقة جميع الفرقاء، في حال رأى ذلك مناسباً. كما يجوز له على الدوام أن يستمع إلى الفرقاء في جلسة مشتركة. ويضمن الوسيط المحافظة على نظام عملية الوساطة، وعلى سرية المعلومات والمستندات التي تقع تحت علمه. ومع انتهاء أعمال الوساطة يوقّع الفرقاء وحدهم (من دون الوسيط) على الاتفاقيات والعقود التي ساهم الوسيط في الوصول إليها.

تجربة وسيط
يتحدث الخبير المحلّف في المحاسبة ماهر حنا عن تجربته كوسيط ومدرب وساطة مؤكداً «أهمية الوساطة كتقنية سريعة لحل النزاعات بين المتخاصمين، والحل يكون نابعاً منهم ومن ضمن المقترحات التي يتقدمون بها خلال جلسات الوساطة، فالحلول لا تُفرض على المتخاصمين كما هو حال القرارات القضائية التي تتطلب وقتاً طويلاً لإصدارها». ويتابع: «خلال جلسات الوساطة يتبادل المتخاصمان الوقائع ويعرضان وجهات نظرهما حول الموضوع المختلف عليه، تتضح وجهات النظر وتتكوّن صورة كاملة حول الوقائع، ويتضح تأثير المواقف في الخصم وفي مشاعره وحياته، وتساعد الوساطة على تعزيز مبدأ الاحترام بين المتخاصمين».
ويشير حنا إلى أن «الوسيط يخضع لدورات تدريبية مستمرة من أجل التمكن من المهارات المطلوبة للقيام بأعمال الوساطة، ويشترط خضوعه قبل المباشرة بعمله لعدد محدد من الساعات يحصل بموجبها على شهادة وسيط معتمد».

اتفاقية الوساطة والتكاليف
يتفق الأطراف المتنازعون على اللجوء إلى الوساطة من خلال بند تعاقدي يُدرج في العقد أو في عقد مستقل، ويتم من خلاله اختيار اسم وسيط متخصص أو مركز للوساطة يسمي بدوره وسيطاً مدرجاً على لائحة الوسطاء المسجلين لديه (المادة 3 من قانون الوساطة الاتفاقية).
يحدد المتخاصمون في اتفاقية الوساطة مدة الوساطة وعدد الجلسات التقريبية لها، وتُعقد هذه الجلسات في مكان محايد، قد يكون في مقر مركز الوساطة أو في مكتب الوسيط. ويُحدد بدل الأتعاب الذي سيدفعه الأفرقاء للوسيط عن كل جلسة.
وبحسب المعلومات، فإن كلفة جلسة الوساطة للنزاعات العائلية تُراوح بين 100 و150 دولاراً، أما في القضايا التجارية فبدل الأتعاب مرتبط بحيثية النزاع التجاري وطبيعته. مع الإشارة إلى أن «الفرقاء يوقّعون وحدهم دون الوسيط، على كل الاتفاقيات والعقود التي يساهم الوسيط في الوصول إليها، وللفرقاء أن يُكسبوا تلك الاتفاقيات والعقود الصفة الرسمية من خلال تسجيلها وتوثيقها لدى الكاتب العدل» ( المادة 12 من قانون الوساطة الاتفاقية).

ما هي المواضيع التي يمكن أن تخضع للوساطة؟
بحسب المادة 2 من قانون الوساطة الاتفاقية، فإن نطاق تطبيق الوساطة يطاول «المجالات التجارية، والمدنية والعائلية والاقتصادية والتربوية والطبية، وعموماً أي نزاع يتفق الأطراف على حلّه عن طريق الوساطة فيما يتعلق بالحقوق التي يجوز فيها الصلح ولا تتعلق بالنظام العام».
«لا يوجد موضوع لا يمكن أن يخضع للوساطة، فكل الأمور قابلة للحل طالما هناك إرادة عند المتخاصمين، حتى في الدعاوى الجنائية يمكن الاحتكام إلى الوساطة لإسقاط الحق الشخصي بين المتخاصمين»، تؤكد المحامية نجاة شكر التي أعدّت دراسة حول الوساطة الجنائية تحت إشراف المركز اللبناني للوساطة والتحكيم، وتقول: «لا يوجد أي مانع قانوني من احتكام المتخاصمين إلى الوساطة حتى في القضايا الجزائية، وذلك في الشق الشخصي أي الحق الشخصي وليس العام، فجلوس أهل الضحية مع أهل القاتل في حال القتل الخطأ، يساعد في حقن الدماء بين الطرفين، وتنحصر حينها المحاكمة على الحق العام في الدعوى، والوساطة جداً مهمة في دعاوى القتل والثأر خاصة في المجتمعات العشائرية التي يمارس فيها كبار القوم دور الوساطة منذ زمن».
يمنح المجلس المركزي لمصرف لبنان الترخيص بتأسيس مؤسسة صرافة بقدر ما يرى أنه يخدم المصلحة العامة المقدَّرة


وتضيف: «هناك عدد من القضايا الجزائية لا يتحرك فيها الحق العام إلا بتحريك الحق الشخصي، كقضايا الشيك دون رصيد مثلاً. إذا استطعنا تحصيل الاتفاق بين المتخاصمين من خلال الوساطة في هذه الحالة، نكون قد ساهمنا بالتخفيف من اكتظاظ السجون وفي الحد من أعداد الدعاوى الجزائية، لذلك أقترح وجود غرف للوساطة في السجون لتوسيع دائرة المعرفة بالوساطة والعمل عليها».

لجنة الوساطة في نقابة المحامين
تعمل لجنة الوساطة في نقابة المحامين على تعميم أهمية الوساطة بين المحامين من خلال تزويدهم بتقنيات ومهارات تخوّلهم فهم الوساطة والتعرف إلى تقنياتها ومهارات التفاوض، كما تعمل اللجنة على تفعيل حل الخلافات بالطرق السلمية، وتحفّز المحامي على الانخراط في عملية الوساطة سواء من خلال كونه وسيطاً أم مستشاراً قانونياً لأحد المتخاصمين.
يمكن القول إن إقرار القوانين التي ترعى مبدأ الوساطة يشكل خرقاً إيجابياً في مجال تنظيم السبل البديلة لحل النزاعات القضائية، فهو يخفف الضغط عن المحاكم، ويساهم في تحقيق فائدة اجتماعية من خلال التخفيف من النزاعات بين الأفراد وضمان استقرار العلاقات المستقبلية بين الأطراف المتنازعة، الأمر الذي ينعكس على الأمن المجتمعي بشكل عام. فعندما يجلس المتخاصمون جنباً إلى جنب على طاولة واحدة، تتيح الوساطة لهم فرصة الاستماع بعضهم إلى بعض، وتسمح لكل طرف أن يتعرّف إلى هواجس الطرف الآخر، فيتحوّل المستحيل إلى حلول ممكنة التحقّق، تراعي حاجات وتطلعات كل الأطراف...
فهل يتبنّى السياسيون مبدأ الوساطة في هذه المرحلة الحرجة لإنقاذ لبنان وما تبقّى من مؤسّسات على صعيد الوطن...؟