مع بدء الفراغ صار الكلام عن «تدويل» الاستحقاق الرئاسي شائعاً، أسوة بكل مرة كانت تقترب فيها الانتخابات الرئاسية أو يحصل شغور في موقع رئاسة الجمهورية. لكن رغم هذا الانطباع الذي كان يتكرس سابقاً مع دخول عواصم إقليمية أو دولية على خط إجراء انتخابات واختيار رئيس الجمهورية، بعد انفجار الوضع اللبناني أو إطالة أمد الفراغ، ثمة كلام أميركي في الآونة الأخيرة مختلف عن السابق.وعلى وقع الانقسام الحاصل حول الانتخابات بين قوى المعارضة والموالاة، وانتهاء العهد من دون انتخاب رئيس جديد، فإن الفرصة لا تزال متاحة للبننة الاستحقاق، بحسب معلومات مستقاة من دوائر أميركية. وتقول المعلومات إنه منذ أسابيع، هناك ضغط خارجي من أجل تقديم الانتخابات الرئاسية على ما عداها من استحقاقات، خصوصاً أن دول العالم ستكون من الآن وصاعداً منشغلة بأزمات التدفئة وأسعار الوقود والغذاء وانفجار مستجدات حرب أوكرانيا وتداعياتها على أوروبا، ما يجعل الملف اللبناني غير طارئ على أي طاولة دولية.
ومن بين الرسائل التي وصلت، اهتمام أميركي ضاغط وجدي في ما يتعلق بالوضع الداخلي، وإيصال رسائل واضحة حول الموقف الأميركي من التطورات المستجدة. وقد انصب الاهتمام في الآونة الأخيرة على أمرين: أولاً حث المعنيين في لبنان على تسريع إجراء الانتخابات الرئاسية، وتقديمها على كل ما يمكن أن يكون مطروحاً. وبحسب المعلومات، فإن الرسائل الأميركية في شأن الانتخابات بدأت قبل فترة من انتهاء عهد الرئيس ميشال عون، وتصاعدت وتيرتها تدريجاً. وهي انطوت على ضرورة استغلال القوى السياسية في المرحلة الراهنة الزخم الداخلي بغضّ النظر عن الانقسامات، وبقاء نوع من الاهتمام الدولي بلبنان قبل الدخول في رزمة أزمات قد لا تنتهي قريباً. وواشنطن كما تقول المعلومات مهتمة بتسريع إجراء الانتخابات وعدم انتظار المواقف الدولية والتطورات الخارجية، ودعوة القوى الأساسية للعمل في وتيرة سريعة للاتفاق على رئيس جديد، من دون أن تتدخل مباشرة عبر مبادرات محددة. لكن الرسالة التي حرصت على إيصالها إلى أكثر من وسط لبناني وخارجي بضرورة الذهاب إلى تحرّك داخلي تدعمه واشنطن من أجل إجراء الانتخابات، وعلى القوى المعنية تحمّل مسؤوليتها في تزخيم العمل لانتخاب رئيس جديد، وعدم التهاون مع ما يمكن أن يتركه الفراغ الرئاسي لفترة طويلة كما حصل سابقاً. ويترافق الدفع الأميركي مع تبيان ضرورة ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الذي يحتاجه لبنان في هذه المرحلة، لأن كلفة عدم إجراء انتخابات، وما يرافقه من توتر سياسي، قد لا تظل تبعاتها محصورة. وهذا يرتب مسؤوليات كبيرة على كل القوى التي ستجد نفسها عالقة بين توترات سياسية وأمنية. وهي ترى أن الفرصة لا تزال سانحة كي تتفق هذه القوى على رئيس جديد، قبل أن ينتقل الملف إلى خارج لبنان في الوقت الضائع.
النقطة الثانية هي أن واشنطن، وفي ظل احتمالات انعكاس الفراغ الرئاسي على الوضع الداخلي ومستقبل لبنان، ضاعفت من رسائلها في شأن اتفاق الطائف. في هذه النقطة، تبدو واشنطن أقرب إلى الرياض، رغم التباينات الأخيرة مع السعودية في مواقف إقليمية ودولية ونفطية، إلا أنها منسجمة معها في شأن مقاربة الوضع اللبناني، وضرورة الحفاظ على اتفاق الطائف وديمومته.
تدعم واشنطن بقوة عدم الدخول في مغامرات أو عقد حوارات حول الطائف

وهي تعتبر أن أي مس به، يعني أن لبنان الحالي لن يبقى بصيغته وبشكله الحالي بل سنكون أمام «لبنانات» متعددة لا تعكس الوجه الذي كرسه الطائف للبنان، والذي لا يزال المجتمع الدولي متمسكاً به. وتدعم واشنطن بقوة عدم الدخول في مغامرات أو عقد حوارات حوله. وتمسك واشنطن بالاتفاق، يعطي له دفعاً جديداً، لأنه لا يتعلق بدعم سياسي - إعلامي كلازمة إنشائية، بل العكس تماماً، بحسب المعطيات الأميركية، لأن هذا الموقف الذي تردد صداه في أكثر من لقاء وتواصل بين واشنطن ولبنان وعلى مستويات مختلفة، يعطي للبيان الثلاثي المشترك الذي صدر من نيويورك، بين وزراء خارجية الولايات المتحدة والسعودية وفرنسا، بعداً متقدماً يتعدى كونه تكراراً لموقف سياسي إقليمي ودولي. وتعول واشنطن في هذه المرحلة على أن يكون موقفها المتجدد دعماً لاتفاق الطائف، حماية للنظام الحالي ودفعاً جديداً من أجل خطوات عملانية في اتجاه إعادة تركيب أسسه وانتظام عمل المؤسسات بدءاً من رئاسة الجمهورية. وقد وجد هذا التأكيد سبيله في أوساط أميركية مهتمة بالشأن الداخلي، وتزكية في التعامل مع المرحلة المقبلة لبنانياً، بحيث يتصدر الطائف والقرارات الدولية تعامل واشنطن مع الوضع اللبناني، الذي لا يمكن لها أن تبقى متفرجة عليه، لكنها تضغط في المقابل كي تكون للمراجع المعنية القدرة على تسريع تفاهمها وخطواتها من أجل وضع انتخابات الرئاسة في مقدم الحدث اللبناني، ما يجعل القوى الخارجية أمام حتمية التعامل مع الانتخابات، بدل استسهال الفراغ.