جولة مع نقيب المحامين على المرفق القضائي في بيروت
ما إن تدخل قصر العدل في بيروت حتى تستحضر سريعاً مشهد الزحمة المعتادة التي لطالما ميّزت المكان. «العجقة» التي لطالما فرضت على القاصدين تبطيء خطواتهم على الأدراج الموصلة إلى الطبقات العلوية، هرباً من الانتظار الطويل أمام المصاعد، يحلّ مكانها اليوم سكون مطبق. تتراكم النفايات حول عدد من المقاعد الخشبية المهترئة، وتغيب أعمال التنظيف والصيانة الدورية عن قصر العدل لتزيد الطين بلّة. لا ماء، لا كهرباء، لا أوراق، لا أقلام، لا جلسات، لا محاكمات، لا قرارات تصدر. فقط، قرارات تأجيل الجلسات بعد انقضاء مواعيد المحاكمات المحددة مسبقاً قبل اعتكاف القضاة.

«رح يجي اليوم الريّس؟» جملة تتردّد في الأقلام، على الرغم من أن قرار الاعتكاف لا يزال قائماً. فغالباً ما تحدد مواعيد الجلسات قبل أشهر، ويقف المتقاضون حائرين أمام الالتزام بحضور الجلسات أو التخلف عنها.
سمير، مغترب لبناني، عاد قبل شهر ونصف الشهر إلى لبنان لتمضية عطلته الصيفية مع أهله وأصحابه بعد غياب 14 عاماً، وفوجئ في المطار بوجود مذكرة توقيف بحقه، فأوقف شهراً ونصف الشهر بسبب تشابه في الأسماء، أمضاها في التوقيف الاحتياطي من دون وجه حق، بسبب اعتكاف القضاة عن ممارسة واجباتهم في المحاكم.


الثلاثيني رامي حصل على عرض عمل في دولة خليجية، ويحتاج إلى إتمام عملية إعادة الاعتبار ليستكمل الأوراق المطلوبة للسفر. يحضر وكيله يومياً إلى العدلية علّه يوفّق في رسم مستقبل أفضل لموكله خارج حدود الدولة اللبنانية، ولا يعلم ما إذا كان قادراً على الحصول على إعادة الاعتبار قبل انتهاء المهلة المحددة من قبل الشركة للالتحاق بوظيفته المستقبلية.
يحضر سليم إلى قصر العدل مرّتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً، قادماً من صيدا، لمتابعة قضية ولده الموقوف احتياطاً منذ أكثر من شهر بجرم تعاطي المخدرات. يحاول مع محاميه التقدم بطلب إخلاء سبيل لولده من دون جدوى. والأمر نفسه ينسحب على رزان التي تحضر منذ أكثر من شهر إلى العدلية لإنجاز ورقة ملاحقة بحق عاملة منزلية سرقتها على حدّ قولها. كما ينسحب على الستينية سامية التي تحاول تقديم دعوى بحق المستأجر الذي يرفض دفع بدلات الإيجار منذ أكثر من سنة.

مطالب القضاة محقة، ولكن؟
يتحدث نقيب المحامين ناضر كسبار خلال جولته مع «القوس» في عدلية بيروت عن الواقع الصعب الذي حلّ بقصر العدل منذ شهرين معتبراً أنه «سابقة في تاريخ القضاء اللبناني. حوالى 450 قاضياً وقاضية قرروا الاعتكاف والتوقف عن العمل نهائياً في قصور العدل»، مشدداً على «أهمية مبدأ تحقيق العدالة الذي لا يُفترض أن يتوقف تحت أي ظرف».


يؤكد كسبار أن مطالب القضاة محقة، لكن الاعتكاف عن العمل يمكن وضعه في إطار «الاستنكاف عن إحقاق الحقّ Déni de justice التي نصت عليها المادّة 4 من قانون أصول المحاكمات المَدنيّة في ظل التعطيل الكامل للعدالة في كل قصور العدل في لبنان».
وحول دور النقابة وماهية الخطوات المتخذة لوضع حد لاستمرار تعطيل المرفق القضائي، لفت إلى أن «نقابة المحامين قامت بمساعٍ منذ بداية الاعتكاف في شهر آب مع رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود ورئيس الحكومة للمساهمة في إيجاد حل، إلا أن الرئيس ميقاتي عبّر حينها بصراحة عن عدم قدرته على دفع 20 مليار ليرة شهرياً، ووعد بتقديم حوافز للقضاة. هذا القرار لم يتلاق مع إرادة مئات القضاة الذين كانوا يتوقعون معاملتهم أسوة بموظفي مصرف لبنان وAlfa وMtc وغيرهم من الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم على أساس احتساب قيمة الدولار بـ8000 ليرة، فكان راتب القضاة لشهر تموز فقط على هذا الأساس».
ونبّه كاسبار إلى «أن اعتكاف القضاة شلّ العمل القضائي، وزاد الأمور تعقيداً، خصوصاً أن حياة الموقوفين مرتبطة بإجراء المحاكمات، وإخلاءات السبيل تتطلب توقيع القاضي، وعندما لا يوقع القاضي تقف كل الأمور وتبقى مصالح المواطنين معلّقة. كنقابة محامين لا نقف مكتوفي الأيدي ونحاول تحقيق خرق إيجابي في الأزمة من خلال التواصل مع القضاة والمعنيين في الدولة».
وحول واقع قصر العدل في بيروت، أكد كاسبار أن «وضع عدلية بيروت ليس أفضل من باقي قصور العدل في لبنان، فالقضاة معتكفون في كل المناطق اللبنانية، وعمل المحاكم مشلول، ومعاملات الناس متوقفة، لا أعمال صيانة، وحتى أعمال التنظيفات معدومة، وتفتقر قصور العدل لأقل المتطلبات من أوراق وأقلام فضلاً عن الإنارة والمياه في الحمامات». ولفت إلى أن «هناك إهمالاً لقصور العدل، ولا توجد شركات تتولى أعمال الصيانة والتنظيف. هناك مبادرات تطوعية من عدد من الجهات لسد النقص الحاصل ولكنها لا تحل المشكلة». وخلص إلى أنه «لا يمكن أن يستمر الوضع على هذه الحال. فالقاضي لا يمكن أن يتخلى عن دوره الأساسي في تحقيق العدالة، هو الذي يدين ويحاسب بقراراته، ولديه صلاحية لتغيير كل هذا الواقع، وتسهيل أمور الناس، والتخفيف من الموقوفين في النظارات والسجون، وهو القادر أن يضع المجرمين في السجون، واليوم بات هناك عدد كبير منهم في مجتمعنا دون محاسبة أو حتى توقيف».

متابعات المحامين من دون جدوى
يحضر عدد من المحامين والمحاميات إلى قصور العدل رغم علمهم بأن الجلسات لن تُعقد وأن مصيرها التأجيل الحتمي، وأن إخلاءات السبيل لن يُبت فيها وستبقى معلقة إلى حين استئناف عمل القضاة. المحامية رغدا القرا هاشم أشارت إلى «التداعيات الكبيرة التي سبّبها اعتكاف القضاة خصوصاً على سير الدعاوى الأسرية والشرعية. فبعد الانتهاء من الدعوى في المحكمة الشرعية، تبقى الأمور معلقة من دون أي مفعول قانوني ريثما يتم إمضاؤها من القاضي في المحاكم المدنية»، معتبرةً أنه «لا بد من وجود استثناءات من الاعتكاف تراعي مصالح الناس خصوصاً في القضايا المتعلقة بالأولاد والنفقة وغيرها. نخوض معارك شرسة في المحاكم الجعفرية للحصول على قرار حضانة أو نفقة، إلا أن هذا القرار يحتاج إلى تنفيذه في المحاكم المدنية».
بدوره تحدث المحامي عماد المصري عن «مشكلة عدم توقيع إخلاءات السبيل للموقوفين احتياطياً منذ أكثر من سنة تحديداً في جرائم المخدرات والقتل»، معتبراً أن «ترك الأمور من دون بت سواء بإصدار الحكم أو إخلاء سبيل، وضع هؤلاء في خانة الاعتقال وليس التوقيف الاحتياطي».
من جهته، اعتبر المحامي حسين حجازي أن «عدم توقيع الشكاوى من قبل قضاة النيابة يخلق العديد من المشكلات للموكلين»، مشيراً إلى صعوبات يواجهها المحامي في تقديم الشكاوى، مستحضراً تجربته في تقديم شكوى عملية احتيال تمت بواسطة OMT، «حيث تبلّغت أن الكاميرات تعمل 30 يوماً فقط. قدمت الشكوى ولكن النائب العام لم يرد توقيعها، وبعد 3 مشاوير إلى زحلة وافق القاضي على فتح محضر بالمخفر وكنا في آخر يوم من الأيام الثلاثين».

المعترض: الاعتكاف بوجه الناس لا الحكومة
يقارب عدد القضاة في لبنان حوالى 650 قاضياً وقاضية، قرر نحو 450 منهم الاعتكاف، فيما تضامن جزء من العدد المتبقي مع زملائهم، وهناك عدد قليل من القضاة يعملون بصمت بعيداً عن الضوضاء على قاعدة أن «السلطة الدستورية لا تعتكف وهي تسيّر أمور الناس على قاعدة أنها أولوية». وحول وضع المحاكم اليوم في ظل الاعتكاف، أكد قاض غير معتكف (لم يرد نشر اسمه) أن «هذه الأوضاع ليست جديدة على قصور العدل. فكان الأجدر التحرّك منذ زمن من أجل مكننة الملفات التي تضيع أوراقها مع الوقت، والعمل على تحسين ظروف العمل التي لا شك أنها سيئة، ولكن الاعتكاف لا يحل مشكلة».
القاضي مكي: غياب الاستقلالية المادية والإدارية والقانونية عن القضاء أوصلنا إلى هذه المرحلة

وتابع: «إذا أردنا أن نصلح القضاء في لبنان علينا أن نخصّص موازنة للسلطة القضائية تضع حداً للتدخل السياسي في القضاء، وانتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى بحسب الكفاءة، وليس تعيينهم من قبل الحكومة وفق معايير مرتبطة بالولاء السياسي أو الانتماء المذهبي أو الطائفي».
وحول الجدوى من الاعتكاف، يطرح المصدر سؤالاً حول الجهة التي يوجه القضاة إضرابهم في وجهها، ويقول: «الاعتكاف في وجه الناس التي تتململ من متابعة الدعاوى، الاعتكاف ليس في وجه الحكومة».

هل يستمر الإضراب؟
رداً على هذا السؤال، تحدث رئيس نادي القضاة القاضي فيصل مكي لـ«القوس» عن موضوع اعتكاف القضاة مؤكداً أن «لا جديد في هذا الملف يلوح في الأفق»، معتبراً أن «ما يجري اليوم مع القضاة يندرج في إطار استحالة وصول القضاة إلى قصور العدل بسبب الأوضاع الصعبة التي يعيشها القاضي». وتابع مكي أن «القضاة في لبنان أُجبروا على التوقف عن القيام بأعمالهم في ظل انعدام الشروط الموضوعية والظروف التي تحفظ للقاضي كرامته في قصور العدل، نتيجة غياب المستلزمات الأساسية للعمل، من الماء والكهرباء وانعدام أعمال التنظيف والصيانة فيها، إلى جانب عجز عدد كبير منهم عن تحمل كلفة التنقل بسياراتهم في ظل ارتفاع أسعار المحروقات، فيما اختار عدد من القضاة أن يتضامنوا مع زملائهم لتحصيل حقوقهم». وختم بأن «غياب الاستقلالية المادية والإدارية والقانونية عن القضاء هو الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة، وجعل القضاء في لبنان يعاني من خلل بنيوي يحتاج إلى المعالجة بطريقة سريعة».

إهمال مقصود؟
«أكبر جريمة بحق العدالة أن يكون القاضي جائعاً، لا يملك ما يكفيه من مال للتنقل إلى عمله والعيش بكرامة هو وعائلته. كيف يمكن للقاضي أن يحكم بالعدل وهو يشعر بالظلم والغبن؟»، يقول أحد القضاة، مشيراً إلى أن «المشكلة لا تكمن اليوم في تحديد آلية دفع رواتب القضاة سواء على أساس 8000 ليرة للدولار الواحد أو أكثر أو أقل، بل المشكلة في أوضاع القضاة منذ بداية الأزمات المتتالية». وأوضح أن «القاضي كان يحضر سابقاً إلى مكتبه حيث لا توجد أوراق أو أقلام فيشتري من جيبه لتسيير العمل. كان راتبه يوازي 3000 دولار أو أكثر، ولم يكن يتوقف عند هذه التفاصيل».

النقيب كسبار: مطالب القضاة محقة إلا أن الاعتكاف يمكن وضعه في إطار الاستنكاف عن إحقاق الحقّ

وينتقد القاضي بشدة «إهمال قصور العدل على مدى سنوات. والأمر ليس مسألة اعتكاف منذ شهر أو شهرين، هناك قصور عدل في المناطق لا توجد فيها حمامات، وإن وجدت فلا توجد فيها مياه، وتفتقر إلى أدنى الاحتياجات لتسيير الدعاوى وأمور الناس».
وحول استمرار الاعتكاف من دون التوصل إلى حلول بعد شهرين، يحسم بعض القضاة أن «عدم الاستجابة لمطالب القضاة أمر مقصود هدفه تهريب الطاقات من الدولة، وتدمير العدالة ودفع القضاة إلى ترك أماكنهم. من سيبقى في البلد إذا اختار القاضي النزيه أن يسافر».




ولّت «المرحلة الذهبية»
في {سنوات العز القضائية} لم يكن عدد من القضاة الموظفين في القطاع العام (وفقا للتصنيف الوظيفي)، ملتزمين بدوام العمل المحدد في كل دوائر الدولة. كان بعض القضاة يزورون قصر العدل مرة أسبوعياً ومرتين في أحسن الاحوال، بغياب شبه تام لدور التفتيش القضائي، إلا للاقتصاص لبعص من يغرد خارج السرب.
هذا فضلا عن {مرحلة ذهبية} عاشتها قصور العدل مع التزام سياسيين بدوام الحضور الى مكاتب بعض القضاة، وتسبقهم في المناسبات والأعياد علب الشوكولا الفاخر. تلك المرحلة ساهمت بشكل مباشر بوضع أهم سلطة في البلد في جيب السلطة السياسية، وأدركت متأخرة سوء نتيجة ارتهانها وولائها للسلطة السياسية، فقررت الاعتكاف عن إحقاق الحق بدلا من الضرب بسيف الحق في وجه سلطة الفساد لاسترجاع حقوق كل المواطنين المنهوبة.
فهل يعقل في ظل أزمة كالازمة اللبنانية أن تعتكف السلطة المسؤولة عن محاسبة الفاسدين عن القيام بدورها؟