سنوات قاسية مرّت على رئيس تيار المردة سليمان فرنجيّة منذ 31 تشرين الأول 2016. انتخاب الرئيس ميشال عون، وما تلاه من صراع وقطيعة مع «العهد» ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، ثمّ 17 تشرين والانهيار الاقتصادي والانتخابات النيابيّة الأخيرة، كلّها محطّات تمدّد فيها الشيب في رأس فرنجية.لكن، على عكس كثيرين ممّن يهيّئون أنفسهم للاحتفال بنهاية عهد عون، يقارب رئيس المردة المرحلة المقبلة بعقليّة مختلفة. بالنسبة إلى فرنجية، لا يمكن تحميل مسؤولية ما حصل في البلد لعون أو باسيل كما يحلو لكثيرين تصوير الأمر. بالطبع، لا يرى سياسة ملائكية من باسيل، لكن هي تراكمات الماضي وأخطاء الحاضر القريب وتحوّلات الخارج، التي أوصلت الأمور إلى الانهيار، وبات الخروج من هذا المأزق التاريخي مسؤولية الجميع.
أمّا مستقبل البلد، كما يراه، فمفتوحٌ على كل الاحتمالات من دون سقوف دولية أو إقليمية. ولذلك فإن أيّ رئيس مقبل للجمهورية سيحمل كرةً من نار تحرقه أوّلاً، قبل الوصول إلى المخارج والانفراجات.
في بيت بنشعي، المناخ الخريفي صار مهيمناً. الهدوء يطغى على وجه فرنجية وصوته، على عكس ذلك الخريف قبل ست سنوات. حينها وصلت «اللقمة للتمّ»، قبل أن ينقلب المشهد رأساً على عقب، وتُعَبِّد تبعاتُ الاتفاق النووي الإيراني - الأميركي طريق قصر بعبدا أمام عون.
تعلّم فرنجية الدرس هذه المرّة. يتعامل مع الطموح الرئاسي على قاعدة «كلّه خير» من دون آمال نفسية، فلا يندفع، ولا يقوم باتصالات، يظهر على الإعلام «حياءً»، ويراقب كيف يتهيّأ الجميع لمرحلة فراغٍ رئاسي. لكن في الوقت نفسه، يبدو مطمئنّاً، فقراءة الوقائع تجعله المرشّح الأوفر حظّاً للوصول إلى سدّة الرئاسة.
صحيح أن الحركة باتجاه الملفّ الرئاسي لا تزال باردة. لكن ملامح الصورة العريضة تشكّلت عند ثنائي حركة أمل وحزب الله في كيفية خوض هذا الاستحقاق بمرشّح واحد من الطرفين. مواصفات المرشّح بسيطة: التمسّك بعداء الدولة لإسرائيل والقدرة على التواصل مع الخارج والداخل، مع التأكيد على عدم تكرار تجربة ميشال سليمان ومنح الأميركيين رئيساً مجانيّاً. وأيّاً يكن اسم الرئيس، فإن حماية دور التيار الوطني الحرّ ووجوده أمر أساسي.
أمّا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، فرغم أن موقفه الأخير كان قاسياً على فرنجية بوصفه مرشح مواجهة وتحدّ، وتأييده الظاهر للنائب ميشال معوض، إلا أن أحداً من متابعي الملفّ الرئاسي لا يقتنع بأنه سيستمر في تصديق رواية الخلاف السوري مع حزب الله، ورغبة الحزب في عدم انتخاب فرنجية لإقصاء أيّ دور سوري مستقبلي. بل على العكس، ثمّة اقتناع بأن التفاهم مع جنبلاط على انتخاب فرنجية مسألة وقت، وفي مرحلة تقطيع الوقت تخفّف لعبة حرق الأسماء ضغوط الخارج.

باسيل ممرّ إلزامي؟
على مقلب باسيل، لا تبدو المسألة بهذه الإيجابية تجاه فرنجية. بالطبع، باسيل مرشّح جدّي مع كتلة من 20 نائباً، لكن في ظروف أقسى من ظروف فرنجية في ظلّ العقوبات الأميركية. صعوبة خيار باسيل تدفع أصواتاً عديدة في داخل التيّار الوطني الحرّ إلى المفاضلة بين فرنجية وقائد الجيش العماد جوزف عون، الذي يُحسب مرشّحاً جديّاً هو الآخر. وبين هذا وذاك، يراهن باسيل على أمرين: الأوّل هو تأكده من أن حزب الله وحركة أمل ليسا بوارد القبول بجوزف عون رئيساً للجمهورية، ويزيد الأمر تأكيداً ما تسرّب عن رغبة أميركية في دعم ترشيح عون، رغم العلاقة المتقدّمة التي باتت تجمع حزب الله بقائد الجيش، بعد مرحلة فتور، تكلّلت أخيراً في التشكيلات العسكرية. وثانياً، هو إمكانية وصوله مع فرنجية إلى اتفاق على اسم رئيس يطمئنهما معاً. سعي باسيل مفهوم. ليس سهلاً عليه أن يسلّم رئاسة الجمهورية إلى رئيس شمالي من زغرتا، وهو يبني زعامة في البترون، ولا أن يقبل بشريك مسيحي «مضارب» له في الدور قرب فريق سوريا وحزب الله، وأن لا يتأثر بأصوات الرؤوس الحامية في التيار الوطني الحرّ، والتي قد يفضّل بعضها من باب النكاية وتراكمات السنوات الأخيرة أيّ مرشح على سليمان فرنجية.
أياً يكن اسم الرئيس فإنّ حماية دور التيار الوطني الحرّ ووجوده أمر أساسي


يفهم فرنجية كل هذا، والحاجة إلى مصالحة مع البيئة العونيّة، ومصالحة باسيل مع بيئة المردة. وهو حين يقارب صورة الفريق، يدرك أن الوصول إلى تفاهم وتقديم التطمينات والضمانات للتيار الوطني الحرّ ممرّ إلزامي للحصول على دعم كتلة لبنان القوي للانتخابات الرئاسية. يؤكّد فرنجية رغبته في تنفيذ الإصلاحات التي يتفق عليها مع باسيل، من التدقيق الجنائي إلى ملفّ الكهرباء. لكن فرنجية لم يعتد أن يعمل بدفتر شروط ولا أن يقدم على خطوات من باب النكاية، حتى لو كلّفه ذلك خسارة أصوات التيار الوطني الحرّ وسدّة الرئاسة.

ماذا بعد الفراغ؟
«الانتخابات الرئاسية شأن دولي»، يصف مصدر دبلوماسي غربي تعقيدات الملفّ الرئاسي. حتى الآن، لم تحسم القوى الدولية موقفها، ولو أن ملامح التباين بين الأميركيين والفرنسيين والسعوديين بدأت تظهر. غياب الرؤية وصعوبة الاتفاق الداخلي يصعّبان وضع جدول زمني للفراغ الرئاسي، الذي يبدو حتى الآن أنه سيكون ملازماً لأزمة على مستوى الحكومة والمزيد من السقوط الاقتصادي والأمني والاجتماعي.
وفيما «تعسّ» المفاوضات في ملفّ الحدود البحريّة، ينسج الأميركيون خططهم في حال فشل الوصول إلى الاتفاق النووي مع إيران، لمواجهة فريق المقاومة في الداخل، وتوسيع وجودهم العسكري والإسراع في إنجاز بناء السفارة.
قريباً يبدأ عضّ الأصابع في الملفّ الرئاسي على وقع الفراغ القاتل. سيبقى اسم فرنجية بعيداً عن بروفات الجلسات البرلمانية، إلى حين نضوج الحلّ ووصول فريق 8 آذار والتيار الوطني الحر إلى التوافق على مرشّح «مدّ اليدّ». ومهما يكن من خيار، لا يحتمل فرنجية أن يكون الانقسام داخل 8 آذار والتيار ثمناً للرئاسة.