«خلّيك بالسيارة» قالت والدتي بحزم قبل ان تترجل منها بسرعة وتتجه نحو مدخل مستشفى غزّة في المخيم. «انطرني وما تتحرك». لم اكن ذلك الولد المطيع. لكن اذكر انه في صباح هذا اليوم (الاثنين 20 أيلول 1982) «سمعت الكلمة». رائحة الموت كانت تملأ المكان ولم ألمح بشار واحمد وباقي «الاشبال» في ملعب الفوتبول قرب موقف المستشفى. كان الملعب قد تحول الى ما يشبه «ورشة عمار»، إذ شاهدت جرافة تحفر في التراب البني المائل الى الاحمرار واستغربت. لماذا يخرّبون ملعبنا؟ ومن أين تأتي هذه الرائحة الخانقة التي لا تُحتمل؟ أغلقت الشبابيك والابواب رغم ارتفاع الحرارة وبقيت في السيارة احدّق في كل ما حولي بحذر وأشعر بالخوف من شيء ما لم استطع تحديده. كان عمري 11 سنة. عادت والدتي الطبيبة الألمانية الى السيارة بعد وقت طويل. بكت. ولم تخبرني شيئاً. اليوم، بعد مرور 40 سنة على ذلك، طلبت منها ان تروي لنا ما شاهدته.
بلهجة عربية «مكسّرة»، قالت: «ما كان في محل ببراد المستشفى». وشرحت انهم اضطروا لتحويل ملعب الفوتبول الى مقبرة جماعية... سكتت طويلاً، وروت انها لم تتعرف إلى وجوه الأشخاص الذين التقتهم في مدخل المستشفى. صعدت الى الطابق الثاني حيث قسم التوليد (الصورة) والأطفال الرضّع الذي كانت مسؤولة عنه، والتقت بعض الممرضات. عانقن بعضهن طويلاً وكانت احداهن تكرر بحزن: «انتبهي يا دكتورة. انتبهي على حالك وعلى ولادك». أخبرنها عن الرعب الذي عشنه.« قتلوا اخي وعمي وأولاد عمي»، «دمّروا المنزل على رأس امي واختي»، «لا نعرف شيئاّ عن ابي. قالوا انهم اخذوه في شاحنة ورحلوا ولا نعرف شيئاً عنه».
قبل ان تكمل احدى الممرضات روايتها عن مسلسل القتل الذي استمر ثلاثة أيام وليالي طويلة، سألت الطبيبة عن الأطفال الرضّع الأربعة الذين كانوا في الحاضنات (baby incubators) فحدقت الممرضات في عيونها بصمت. غرفة العناية الخاصة بحديثي الولادة كانت ذات نوافذ عريضة ليتمكن الاهل من مشاهدة أطفالهم من خلف الزجاج. الممرضات كن قد ازلن قطع الزجاج التي كانت مبعثرة في كل مكان لكنهن تركن الحاضنات المحطمة في مكانها، وكانت بقع الدماء قد مالت الى السواد بعد مرور ثلاثة أيام على انهاء حياة أطفال رضّع لم يسمح لهم ان يعيشوا اكثر من أيام قليلة.
لم تجد طبيبة الأطفال التي كانت قد ساهمت في تأسيس قسم التوليد (اطلق عليه اسم «"مستشفى رام الله») كلمات تصف ما شاهدته. وعندما كررت السؤال، قالت: «واحد كان كيلو ونص والثاني كيلو وثمانمئة غرام والثالث ...»، وكأنها تراجع الملفات الطبية التي تستند اليها لتشخيص الوضع الصحي لحديثي الولادة.
روت ان الممرضات اعلمنها انهن نقلن البقايا البشرية للرضع الى براد مستشفى غزة. ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن بعضهم بعدما مزّقت الطلقات النارية أجسادهم الصغيرة.
لم تعاين البراد. بكت مع الممرضات ثم عادت الى السيارة. لم تقل شيئاً.
بعد مرور 40 سنة، سألت: «لماذا تريدني ان استعيد هذه الذكريات المؤلمة؟».
قلت: لأن القتلة لا يزالون يعيشون بيننا، ولا اريد ان أبقى في وحدي في السيارة.