إذا طلبنا منك وصف محكمة، ماذا يخطر ببالك؟ربما زرت محكمة بالفعل، أو شاهدت قاعات محاكم في أفلام ومسلسلات. وحتى لو لم تكن متحمساً جداً للقانون والمحاكمات، فمن المحتمل أن لديك فكرة كافية عن شكل قاعة المحكمة. نتخيل القاضي الموقر على كرسيه العالي فوق الجميع، ينظر إلى القاعة من علٍ، ويستمع إلى حجج المدعي العام الذي يدافع عن إدانته للمتهم. بجانبه، يحاول الدفاع عكس ذلك، والتأكيد على حصول موكله على جلسة استماع ومحاكمة عادلة. وفي بعض البلدان، تكون هناك أيضاً هيئة محلفين. وأخيراً، هناك المدّعى عليه، جالساً جنب المحامين أو مفصولاً عنهم، واحياناً خلف عازل. نأخذ هذا الوصف كأمر مسلّم به.


نستمع للمدعي العام والدفاع والقاضي، ونجادل في القانون بيننا وبين أنفسنا، بل يمكننا أن نبرئ مجرماً وأن نحكم على بريء. هذه الحرية التي تعطينا إياها السينما وأفلام قاعات المحكمة التي نشاهدها بكثرة على منصات التدفق الرقمي مثل نتفليكس وغيرها، يمكن أن يكون لها تأثير على المفهوم العام للعدالة، رغم أن القليل منها يعكس بدقة الواقع القانوني، ومعظمها يتكون على أساس مسرحي.
قصص وقضايا المحاكم مثالية للسينما والشاشة الصغيرة، بسبب ثقلها الدرامي وحكاياتها الجنائية وشخصياتها الجذابة. ولأن هذه الأفلام اليوم تأخذ الحيز الأكبر على منصات التدفق الرقمي، وتصل إلى كل بيت ونتعلم منها الكثير، لا بد من التوقف عند سؤال أساسي: هل أفلام المحاكمات، أو كما يسمى النوع سينمائياً «دراما قاعة المحكمة»، منصفة للقانون والمحاكمات والعدالة؟

قاعة المحكمة في الثقافة الشعبية
تتقاسم السينما والنظام القضائي مساحة ثقافية تتزايد كل يوم. ورغم أن فيلم المحاكمات قديم قدم السينما، إلا أن شعبيته المتزايدة في عصرنا هذا تساعد في تكوين وعي قانوني شعبي (جيد وسيئ) في الثقافة الشعبية. دراما قاعة المحكمة قد تؤثر على طريقة تفكير الناس. فقضاء ساعة مثلاً أمام حلقة من مسلسل أو أكثر في حالة الفيلم للهروب من الواقع، قد يؤثر على رؤيتنا لهذا الواقع. دراما قاعة المحكمة، أو فيلم المحاكمة، بدأت عام 1907، سواء كان خيالياً مثل «قانون ونظام» / Law and Order و«الزوجة الصالحة» / The Good Wife، أو مقتبساً من أحداث حقيقية مثل «الشعب ضد او. ج. سيمبسون» / The People Vs O.J. Simpson (متوافر على نتفليكس)، و«محكمة 7 من شيكاغو» / The trial of the Chicago 7 (متوافر على نتفليكس)، و«المحاكمة»/ The Trial (متوافر على نتفلبكس)، أو كتلفزيون الواقع مثل «القاضي جودي» / Judge Judy، أو حتى مع كاميرات تنقل المحاكمات مباشرة على التلفزيون مثل محاكمة او. ج. سيمبسون ومحاكمة جوني ديب وأمبير هيرد.


أصبح سرد القصص القانونية من خلال الشاشة أمراً شائعاً جداً بسبب انتشار الكاميرات في كل مكان وهيمنة الصورة على ثقافتنا واصبحت هي الناقل الأهم للمعلومات.
إن مظاهر العدالة في أفلام قاعة المحكمة لا تعني بالضرورة وجود عدالة. ورغم ان هذه الأفلام والمسلسلات تحارب من اجل تكوين فكرة مجردة للعدالة، إلا أنها من خلال التمسك بقواعد القانون المرئي والدرامي تعيق تحقيق العدالة، وتقدم وجهة نظر مشوّهو عنها وعن القانون بحد ذاته، لأن في هذه الدراما نحتاج دائماً إلى بطل، وهذا البطل في هذه المساحة هو المحامي الذي يكافح من أجل الحفاظ على قيم النظام الاجتماعي. لذلك، عندما يكون المحامي هو البطل وعازماً على تحقيق العدالة، فأنه عادة ما يضطر إلى كسر قواعد النظام الاجتماعي وانتهاك قواعد القانون. إن تشكيل وتهذيب هذا النضال الاجتماعي في الأفلام يجعل من الصعب تحقيق العدالة بطريقة واقعية، مما يؤثر على فهمنا للقانون نفسه وأهميته في حياتنا. التصور الاجتماعي الذي تعبر عنه الأفلام، في ما يتعلق بالقدرة على تحقيق العدالة من خلال النظام القانوني، كان وسيظل على الأرجح، المعضلة المركزية للقانون والسينما، معضلة بلا حل تقريباً.


تتضمن أفلام قاعة المحكمة تصورات مثيرة للاهتمام، وحتى مفاجئة، في ما يتعلق بالصلة بين القانون والعدالة وطريقة نظرتها وتأثيرها علينا في حياتنا الطبيعية أو على الشاشة. تنبع هذه من قدرة السينما على إظهار الواقع بطريقة بصرية. من خلال فحص أفلام قاعة المحكمة، يمكن تحليلها عبر خصائص هذه الوسيلة: البطل، السرد، النهاية. وهناك فروق كبيرة بين مظاهر العدالة في العملية القضائية الفعلية، وتمثيلها وفقاً لقواعد هذا النوع السينمائي.تبني العدالة شرعيتها على القانون، وتعمل ضمنه وتراقبه من وجهة نظر داخلية. على عكس ذلك، فإن المجتمع الخارجي أي نحن، نتعلمها من خلال أفلام قاعة المحكمة، وهذه الأفلام لا تدرك القانون وتحقيق العدالة بالطريقة نفسها. لذلك علينا إعادة تقييم الطريقة التي يقوم عليها مفهوم العدالة في الأفلام، لأن تأثيرها على المجتمع يكون بطريقة مغالطة. الاعمال الدرامية يمكن أن تشكل تحيّزات وتصورات مسبقة لا شعورية، يؤدي هذا التحيز أيضاً إلى عدم ثقة في القانون، مما يؤدي إلى فشل العدالة. ولكن يبقى السؤال: ما مدى ضعف الهيئات القضائية، وهشاشة القانون لتؤثر عليهما الأفلام والمسلسلات؟



CIS Effect
لسنوات، درس الباحثون تأثير الاعمال الدرامية في قاعة المحكمة على هيئة المحلفين والمحامين والقضاة. هذا التأثير، يطلق عليه اسم CIS Effect، وسمي كذلك تيمناً بالمسلسل الدرامي التلفزيوني الجنائي CIS الذي شاهده الملايين لمدة 15 عاماً من عام 2000 إلى 2015. يستخدم هذا المصطلح كمظلة للعديد من الفرضيات المتعلقة بزيادة شعبية البرامج التلفزيونية والأفلام والمسلسلات حول المحققين الشرعيين والمحاكمات، وكيف أن هذه الأفلام يمكن أن تؤثر على النتيجة في قضايا الحياة الواقعية. نتفق طبعاً، كما قلنا في السابق، على أن الاعمال الدرامية في قاعة المحكمة غالباً ما تكون مختلفة كلياً عن قاعة المحكمة الحقيقية.
تشكيل النضال الاجتماعي في الأفلام يجعل من الصعب تحقيق العدالة بطريقة واقعية

وأن هذه الأفلام قد تعطي المشاهدين فكرة غير واقعية عن كيفية عمل نظام العدالة الجنائية. ولكن هي يمكن لبرنامج تلفزيوني أن يؤثر على حياة الناس بهذه الطريقة وأن يسجن أبرياء أو يبرئ جناة؟ هل الالمام ببرنامج تلفزيوني خيالي يغير الطريقة التي يرى فيها المحلفون والمحامون والقضاة الأدلة في المحكمة وبالتالي تؤثر على قرارهم النهائي في الإجراءات القانونية في المحكمة؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يتعلق بتأثير CIS.



نظرة نقدية للقانون والافلام
تشكل السينما، بلا شك، أداة منهجية جيدة للتنديد بنواقص النظام القضائي، لأنها تلاحق العدالة بذكاء مما يسمح لنا باستيعاب الرسائل القانونية بشكل أفضل. يمكننا أن تقول إن السينما كلها «قانونية»، الأفلام تعكس دائماً مشاكل أخلاقية واجتماعية، وما إلى ذلك، تحت منظور ما هو عادل أو غير عادل. ودائماً ما تعكس تقاضياً بين طرفي نزاع متعارضين، وتعكس سلوكيات بشرية: الحب، الكراهية، الانتقام، الطموح، القسوة، الظلم... الخ. ما تفعله دراما قاعة المحكمة، هو تطبيع كامل للعدالة ولو كانت زائفة، أو غير واقعية. كثرة هذه الأفلام والمسلسلات تجعلنا نشاهد، نتفاعل ولكن من دون تفكير او حتى نقد للقانون أو لهذه الأفلام التي تعكس قانوناً ما. فالمحاكمات السينمائية، تستعمل لتوضيح وتعزيز معايير أخلاقية تجاه القانون نفسه، وايضاً تشكل هوياتنا في تعاملنا مع القانون ومع رجال القانون، من الشرطة إلى المحامين والقضاة. وبإمكانها أن تجعلنا نفقد حسنا النقدي ونتعامل مع الأشياء بطريقة الابيض أو الأسود، صحيح أو خاطئ، مذنب أو بريء. فأفلام المحاكمات والقانون ليست كلها واقعية، ومعظمها موجود لتعزيز الثقافة الشعبية بالقانون من خلال تحقيق الامنيات والعدالة، طريقة لطمأنه الشعوب أن القانون موجود، وطبعاً ابعاد الشبهات عن المحاكمات والقانون نفسه. لذلك من المفيد أن نرتقي إلى مستوى الوعي القانوني وأن ننتقده، وايضاً نكون حساً نقدياً لهذه الأفلام والمسلسلات. نضعها تحت المجهر، نصارعها ونواجهها. هذا النقد للقانون وهذه الدراما يجعلنا أكثر حرية في العقل والروح.