قد لا تكون هذه المرة الأولى، لكنها حتماً من المرّات النادرة التي تنشر فيها «بورتريه» من دون صورة تعرّف عن صاحبها. ويبطل العجب عندما يكون السبب، بكلّ بساطة، أن صاحبها، الجريح في انفجار مرفأ بيروت الذي وقع قبل 22 شهراً، اختار أن يبقى مجهولاً. عندما تواصلنا معه بهدف مقابلته، اشترط محمد ألا ننشر أي معلومة تدلّ على هويته، مبرّراً «لم أتقبّل بعد أنني، وفي عزّ شبابي، صرت معوقاً»، وتابع: «هناك أشخاص كانوا مقرّبين مني قبل الانفجار لا يعرفون شيئاً عن خسارتي لنظري».
قبل وصوله إلى الموعد المحدّد، كان المخيّلة قد رسمت صورة عن شاب هزيل، سيصل متلمّساً الطريق بعصا أو يسلّم نفسه لشخص آخر يساعده في التنقل. لكن المفاجأة كانت بالتعرّف إلى شاب طويل، بنية جسده متينة ومفتول العضلات. وصل إلى الطاولة من دون مساعدة أحد. حتى أن عيناه بدتا للوهلة الأولى طبيعيّتين. لم ينتظر السؤال، بل بادر إلى الشرح: «لقد خسرت عيني اليمنى وأستطيع النظر باليسرى. قليل من التدقيق وتلاحظين أنني أضع عيناً زجاجية».

خوف من الشفقة
إعاقة هذا العشريني «تكسره» وتشعره «بالدونية». لذا يتجنّب أن يحكي عنها «خوفاً من الشعور بالشفقة. فالمجتمع يبحث دائماً عما ينقصك ليظهر تعاطفاً لئيماً». ولأن هذه «الدونية» عارية، ومعروضة للفرجة، صار محمد انطوائياً، يقضي معظم أوقاته في منزله. تمرّ أسابيع من دون أن يخرج من غرفته ويلتقي أفراد العائلة. لماذا؟ لأن «رجل البيت اللي كان الكلّ شايف حاله فيه» لا يتقبّل أن يرى نفسه في عيون أحدهم ذلك الرجل الناقص والضعيف. وأكثر ما يزعجه محاولة البعض مساعدته لتسيير أموره الخاصة، «مثل قيادة السيارة بدلاً عني، علماً أنني أستطيع القيادة بعين واحدة».
يُدرك محمد أن أكبر عدوّ له هي ذاكرته التي لا تنفك ترميه بمقاطع سريعة لما حدث عند الساعة 6:07 في 4 آب، بينما كان مع والدته في زيارة لوالده المريض في مستشفى الجعيتاوي: «كيف طرت ووقعت على السرير، وكيف وقع الزجاج عليّ، وذلك الصوت العالي يتبعه هدوء مثل المسلسلات تماماً». وهو يركض بحثاً عن مستشفى، ظن أنه بمجرّد مسح الدم عن عينه المصابة سيرى فيها. لم يعلم أن الصور المتقطعة والألوان المتداخلة التي كانت تظهر له كلما أغمض عينه اليسرى ليختبر العين المصابة، «كما لو أنني أنظر من شاشة هاتف مكسورة»، هي آخر ما تلتقطه هذه العين.
تمرّ أسابيع من دون أن يخرج من غرفته ويلتقي بأفراد العائلة


خسارة الوالد
وصل محمد إلى مستشفى الرسول الأعظم مصاباً في جانبه الأيمن. جرت مداواة الندوب في رأسه، ظهره، وأذنه. ثم استؤصلت عينه. لكن الخسارة الأكبر التي أوصلته إلى حالة من اللامبالاة تجاه أي مصيبة قد تطرأ هي خسارة والده. تأثرت رئتا الوالد بالدخان الذي ملأهما يوم الانفجار، ففارق الحياة بعد مواجهة مع المرض دامت لأسابيع. نسأل محمد عن علاقته بوالده. فيفتح مظلّة الصمت، ويشرد. ثم يقول «بحياتي ما تركته، إلى حدّ كان الناس يسألونني باستمرار عن سبب التصاقي الدائم به». يحاول أن يستأنف الكلام عنه، لكنه لا ينجح فيستسلم لشروده.
يتمنى محمد لو أنّه توفي في الانفجار كلما عجز عن تحمّل أوجاعه أو إسكاتها لأنه لا يملك ثمن المسكنات. أخبره الطبيب أن لا حلّ لهذه الأوجاع، لأن المشكلة تعود إلى تضرّر أعصاب الرأس والضغط على عين واحدة. سدّد تكاليف مراجعات أطباء الظهر والأعصاب والعين، والأدوية، والعلاج النفسي، على نفقته الخاصة. وبعدما «حلّقت» أسعار المسكنات، صار عمه يرسلها إليه من ألمانيا. كما تكفّل صديق والده بتركيب عين زجاجية. ما يعني أن «الدولة فجّرت عيني واستأصلتها ثم تركتني مسكوناً بأوجاعي»، كما يقول بصوت زادت قساوة الحياة من خشونته.

...وخسارة العمل
يحاول محمد أن يجعل الحياة محتملة بشكل من الأشكال. أحلامه نوعان: بعضها ولدت ميتة، وبعضها الآخر وأدتها ظروف البلاد الصعبة. يحلم، مثلاً، أن يعيد والده إلى الحياة ويعيد عينه كذلك. كما يحلم أن ينتزع الآلام التي لا تغادره. ينظر إلى المستقبل بعين واحدة، يجده قاتماً: «حلمي بالسفر إلى ألمانيا للعمل في مجال السيارات الذي أحب لن يتحقق. فأنا لا أستطيع ترك عائلتي التي لا تحتمل فراقاً آخر بعد فراق والدي». أما حلمه بإيجاد فرصة عمل في لبنان بعدما خسر عمله كسائق في شركة غادرت البلاد بعد الانفجار، «فليس إلا محض جنون، قد يكون أصعب من إعادة والدي إلى الحياة».