من أكثر الأخطاء شيوعًا الحكم بسرعة على وفاة شخص ما على أنه انتحار قبل إجراء تحقيق شامل. يحدث هذا، عادة، عندما يقوم ضابط دورية قليل الخبرة بالتحقيق في مكان الحادث أو عندما يندفع «البعض» إلى إغلاق القضية. وحتى لو حكم على وفاة أحدهم بأنها انتحار، فإن قيام خبير جنائي بإلقاء نظرة ثانية يمكن أن يساعد في الحصول على الإجابات التي تحقق العدالة.المبدأ الأساس الذي يعتمد عليه الخبراء الجنائيون أثناء التحقيق في مسرح الجريمة يعرف باسم مبدأ «تبادل لوكارد» (Locard Exchange Principle) الذي ينصّ على أن مرتكب الجريمة سيأتي بشيء ما إلى مسرح الجريمة ويأخذ معه شيئًا ما، ويمكن استخدام كليهما كدليل جنائي. يتم تلخيص هذا المبدأ عمومًا بأن «كل اتصال يترك أثراً». ووفقًا لذلك، فإن إعادة النظر في مسرح الجريمة قد تعطي أدلة مهمة حول طبيعة الحادث وتسلسل الاحداث.

الانتحار ببندقية صيد
حالات الانتحار بالأسلحة النارية شائعة نسبيًا، لا سيما في الحالات التي يستطيع فيها المتوفى سحب الزناد باليد. لكن التناقض بين طول ذراعي الفرد وماسورة بنادق الصيد قد يجعل المحققين يشككون في احتمال الانتحار، خصوصاً اذ لم يتم العثور في مكان الحادثة على أداة ميكانيكية أو أجهزة داعمة ذات أوتار أو حبال لسحب الزناد عن بعد.
من الممارسات المعتادة بين الخبراء قياس طول الذراعين والمسافة بين جرح دخول الطلق الناري وطرف الإصبع الأوسط للذراع الممتدة أثناء تشريح الجثة. ومع ذلك، عندما تكون ذراعا المتوفى أقصر من ماسورة السلاح الناري طويل، لا يمكن استبعاد فرضية الانتحار تمامًا، لأن من يقدم على الانتحار قد يستخدم طرقًا غير معتادة مع ملحقات ميكانيكية مختلفة لسحب الزناد، مثل جسم طويل أو خيط / سلك أو غير ذلك.
لفحص فرضية الانتحار باستخدام بندقية صيد، على الخبير ان يقوم بتجارب علمية وتقنية لإنارة قناعة المحكمة والمساعدة على الإجابة على نقاط مهمة يمكن ان تؤثر في مسار التحقيق بأكمله. لمعرفة مدى امكانية الانتحار باستخدام هذا النوع من السلاح، يجري الخبير بتجارب عملية على شخص يمتلك جسداً مماثلاً لجسد المتوفى وكتلته العضلية.
للقيام بالتجارب بطريقة مهنية دقيقة واعادة تركيب مسرح الجريمة، يقوم الخبير بما يأتي:

حساب طول ذراعي المتوفى
في حال لم تكن الضحية متاحة للفحص (دفنت) ولم يكن المحقق الجنائي قادراً على قياس طول أطراف المتوفى أثناء تشريح الجثة، يُمكن للخبير تقدير طول الذراعين في هذه الحالة باعتباره من أهم العناصر لمناقشة امكانية الانتحار بسلاح الصيد المضبوط. اعتماداً على معادلات علمية، يُمكن للخبير حساب طول الأطراف العلوية للمتوفي من خلال ثلاثة معطيات: العمر، الوزن، والطول.

اجراء التجارب
يجري الخبير تجاربه بالتعاون مع شخص يمتلك مقومات وكتلة عضلية تتناسب إلى حد كبير مع جسد المتوفى، لجهة الوزن والطول والعمر، وطول اليد نفسه، وباستعمال نوع السلاح المضبوط نفسه (طول الماسورة، الوزن، المسافة بين فوهة السلاح الناري والزناد، وغيرها).

مسار الطلقة
مسار الطلقة هو من اهم المعطيات التي يستند اليها الخبير في تحليل مسرح الجريمة. لهذا الغرض، يضع المحقق الجنائي.
رسماً تخطيطياً (Sketch) لمسرح الجريمة من خلال المعطيات في مكان الحادث، او استناداً إلى المعلومات التي يتضمّنها تقرير الشرطة القضائية. وفقاً للمعايير المهنية، يستخدم الخبير باستخدام برنامج كمبيوتر هندسي متخصص (على سبيل المثال AutoCAD) يساعد في رسم مسرح الجريمة بأبعاد دقيقة وتحديد مواقع الأدلة والعلاقة بينها.
بحسب معطيات مكتب الحوادث، يجري تحديد مكان وارتفاع الثقوب (او الجلوف) الناتجة عن الطلق الناري، ليتمكن الخبير من رسم مسار الطلقة Bullet Trajectory . في واحدة من قضايا الانتحار المشبوهة، ساعد «مسار الطلقة» على استبعاد فرضية الانتحار بعد أربعة أعوام من ارتكاب الجريمة، بعدما تبين علمياً ان مسار الطلقة موجود على مستوى أعلى من رأس الضحية في حال تمت عملية الانتحار في وضعية الوقوف بحسب افادة المشتبه فيه. إضافة الى «مسار الطلقة»، وجد الخبير ان المظروف الفارغ في مسرح الجريمة لا يوجد على بُعد منطقي من مكان إطلاق النار، بحسب رواية الانتحار التي لفّقها المشتبه به.
مرتكب الجريمة سيأتي بشيء ما إلى مسرح الجريمة ويأخذ معه شيئًا ما، ويمكن استخدام كليهما كدليل جنائي


الى ذلك، على الخبير دائماً الاعتماد على المراجع والدراسات الحديثة في ما يتعلق بالأسئلة التي تثير الجدل في المحكمة، على سبيل المثال: بعد إطلاق النار على الرأس هل تسقط الضحية الى الأمام أم الى الخلف؟ وجد الخبير انه للانتحار بالوضعية التي وصفها المشتبه فيه، سيكون وزن الرأس متقدماً عن نقطة توازن الجسم. فبعد الاطلاق، وبفعل عامل الجاذبية، ستسقط الضحية الى الامام ما يتناقض تماماً مع مكان وجود المسدس. إضافة الى أدلة مادية أخرى، استبعدت المحكمة فرضية الانتحار، وقام الخبير بإعادة بناء مسرح الجريمة نظراً إلى مسار الرصاصة وطول المتوفى والمظاريف الفارغة ونمط تناثر الدم في مسرح الجريمة.



دراسة حالات الانتحار في الأماكن السهلة الوصول اليها باستعمال هذا النوع من السلاح

يقوم الخبير بمقارنة فرضية الانتحار موضوع مهمته (طلق ناري في المعدة باستعمال بندقية صيد على سبيل المثال) مع فرضيات انتحار أخرى في مواضع أخرى أسهل الوصول اليها، باستعمال نوع السلاح المضبوط نفسه. فيتبين وجود ثلاثة مواضع أخرى أكثر «عملية» للانتحار: الانتحار تحت الذقن (وضعية الوقوف/الجلوس) والانتحار وراء الأذن، الامر الذي يثير الشكوك حول اقدام المتوفى على الانتحار بالمعدة

الانتحار تحت الذقن - وضعية الوقوف


وضعية الانتحار هذه سهلة التنفيذ، اذ ان يد الضحية يمكن أن تصل بسهولة الى الزناد، و من ناحية أخرى يمكن الضحية إسناد البندقية بين رجليها مما يخفّف من ثقل البندقية، ويجعل عملية الانتحار سهلة من الناحية العملية.

الانتحار تحت الذقن - وضعية الجلوس


هذه الوضعية الانتحار سهلة التنفيذ ايضاً، اذ ان يد الضحية تصل بسهولة تصل الى الزناد، ويمكن الضحية من جهة أخرى إسناد البندقية على الكنبة ما يخفف من ثقل البندقية، ويجعل عملية الانتحار سهلة من الناحية العملية.

الانتحار وراء الاذن - وضعية الوقوف


في هذه الوضعية تمسك الضحية
البندقية من فوهتها وتثبّتها وراء اذنها
وتصل بسهولة للزناد ما يجعل
هذه الوضعية ايضاً سهلة التنفيذ.


درس كل فرضيات الانتحار بحسب جرح دخول الطلق الناري بمختلف وضعيات الجسد

وضعية الوقوف


تظهر الصورة التجارب التي تمت بالتعاون مع X والتي أفادت ان من الصعب جداً القيام بالانتحار بهذه الطريقة، للأسباب التالية:
- البندقية ثقيلة جداً
- البندقية طويلة جداً بالنسبة لطول يدي الضحية.
- عدم القدرة على حمل البندقية بيد واحدة والاطلاق باليد الأخرى.

وضعية الاستلقاء


وضع الانتحار هذا هو حتماً مستحيل لأن أصابع X في هذه الحالة لا تصل الى زناد البندقية.

وضعية الجلوس


هذه الوضعية هي الأسهل لتنفيذ الانتحار من بقية الوضعيات. في هذه الحالة، تمسك الضحية البندقية برجليها وبيد واحدة، وتطلق العيار باليد الأخرى، فيكون بذلك الجرح ملامساً للجلد. لكن العنصر المهم في هذه الحالة هو شكل جرح الدخول، الذي سيكون عنصراً مهماً في تحديد الوضعية بسبب الزاوية الحادة التي تنشأ بين جسد المتوفى وفوهة البندقية في وضعية الجلوس.


طمس الأدلة دليل على الجرم
في بعض حالات الانتحار، أكثر ما يلفت اهتمام الخبير هو محاولة طمس الأدلة المفترض تواجدها في مسرح الجريمة (كالدماء) وعلى السلاح المضبوط (كالبصمات على الزناد)، الأمر الذي يزرع الشك في تدخل جنائي لتزييف حقيقة الحادثة.
في احدى قضايا الانتحار، أثار شكوك المحقق الجنائي، عند التدقيق في الصور الواردة من مسرح الجريمة، عدم وجود أي بقعة دموية على الأرض أو على الجدار أو في المحيط، مع العلم أن الضحية كانت تنزف بعد تلقيها طلقة نارية. على العكس من ذلك، بدا مسرح الجريمة نظيفاً ولم يتضمن أية انسيابات دموية، باستثناء ملابس المتوفى، ما يثير الشك في ان الحادثة وقعت في المكان نفسه الذي وجدت فيه الجثة، او ما إذا جرى تنظيف مكان الحادثة.
كما أجرى الخبير دراسة جنائية للبقع والانسيابات الدموية على ملابس المتوفى ساعدته على تحديد مدة النزف في الوضعية التي شوهدت فيها الجثة للمرة الأولى في مسرح الجريمة. وبالتالي، وثّق الخبير مناطق تقطّع لانسياب الدم على ملابس المتوفى، وبالتالي تحديد ما إذا تم تعديل او تحريك الجثة بعد القتل. فاعتمد الخبير على الدراسة الديناميكية المفصّلة للسقوط الدموي لتأكيد ما إذا كان دم الضحية تأثر بعامل إضافي على عامل الجاذبية، كتغيير وضعية الضحية على سبيل المثال.
إضافة الى دحض رواية المشتبه بهم، وعدم تطابقها مع واقع الأدلة في مكان الحادث، يعمد الخبير في تحليله لمسرح الجريمة الى تفسير وتوضيح كيف ستكون الانسيابات والبقع الدموية في حال أقدمت الضحية على الانتحار حسب الوضعية التي وجدت فيها في مسرح الجريمة، ما يساعد المحققين في البحث عن أي بقع دموية جرى تنظيفها باستخدام الأضواء والأشعة الجنائية.