العدل يستدعي الدقّة، والدقّة تستدعي الصبر. لكن بعد انتشار الخبر عن وقوع جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها ثلاث شابات ووالدتهن، استعجل الجميع إنزال اشد العقوبات بحق الجناة قبل كشف الملابسات، وقبل ختم التحقيقات الجنائية وإحالة الموقوفين على القضاء المختص. تسابق الاعلاميون لجمع المعلومات من المحققين والعسكريين والقضاة وغيرهم ممن لم تهدأ هواتفهم الأسبوع الفائت، فيما لم يصدر عن القضاء أي بيان يقدم للجمهور أخباراً موثوقة عن إجراءات التحقيق وحقيقة ما جرى. تسريب التحقيق الجنائي يعدّ جريمة بحسب القانون اللبناني. لكن، في ظل الانحطاط الذي يمرّ به البلد، بات التسريب «على عينك يا تاجر»، من دون أن يكلّف القضاء نفسه ملاحقة أي من المسربين، خصوصاً إذا كانت هناك شبهة بأن المسرّب قاض او ضابط او مدّع عام. للمرة الالف نذكّر بوجوب الحفاظ على سرية التحقيق كي تنجلي الحقيقة ولا يفلت القاتل وتتحقق العدالة وتستعاد بعض الثقة بالمؤسسات التي تنهار على وقع الفوضى

(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

لم تتكشّف بعد كل ملابسات الجريمة المروّعة التي طالت أماً وبناتها الثلاث، في بلدة أنصار الجنوبية. في ٢٥ آذار الماضي، صدر عن قيادة الجيش بيان أوضحت فيه ان دورية من مديرية المخابرات في بلدة أنصار «أوقفت المواطن (ح. ف.) للاشتباه بمشاركته في عملية خطف المواطنة باسمة عباس وبناتها ريما (مواليد 2000)، تالا (مواليد 2002)، ومنال (مواليد 2006) بتاريخ 2/3/2022». وأضاف أن «سلسلة تحقيقات أُجريت مع الموقوف أفضت الى اعترافه بأنه قام بعملية الخطف بمشاركة السوري الفارّ (ح. غ.)، وانهما نقلا الفتيات المخطوفات ووالدتهن الى مغارة تقع في خراج البلدة المذكورة، حيث تمت جريمة قتلهن. بتاريخ 27/3/2022، تمكنّت دورية من مديرية المخابرات في منطقة البقاع من توقيف السوري (ح. غ.) المتهم بالمشاركة في تنفيذ عملية القتل، وبوشر التحقيق مع الموقوف بإشراف القضاء المختص».
انشغلت معظم وسائل الاعلام بنشر أخبار مسرّبة من دوائر التحقيق الاولي وإفادات قيل انها مدوّنة في محاضر الاستجواب. كما نقلت صوراً من مكان العثور على جثامين الضحايا، وعمّمت صور المشتبه بهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وسرعان ما تحول الأمر الى حملة واسعة للمطالبة بإعدامهما في ساحة البلدة، كما فعل بعض أهالي بلدة كترمايا (إقليم الخروب) بشخص اشتبهوا بارتكابه جريمة قتل مروعة في نيسان 2010. ففي مشهد من القرون الوسطى في اوروبا، سُحل المشتبه به يومها، وتعرّضت جثته للتنكيل في ساحة البلدة، قبل ختم التحقيق من دون معرفة كل ملابسات الجريمة والمشاركين فيها.
قد يكون الدافع الأساسي للمطالبين بإعدام المشتبه فيهما بارتكاب جريمة أنصار هو ردع المجرمين عن ارتكاب جرائم مماثلة من خلال تهديدهم بالقتل. لكن، بغضّ النظر عما إذا كان هذا يشكّل رادعاً حقيقياً أم لا، ألا يفترض ان تنجلي الحقيقة كاملة قبل المطالبة بالقصاص من الجناة؟ ومن هي السلطة التي يثق بها الناس لكشف الحقائق؟ وسائل الاعلام السريعة أم القضاء البطيء؟
من اختار وسائل الاعلام وصلته «الحقيقة» وسمح لنفسه بالمطالبة بالقصاص. اما من لا يزالون يأملون، ربما، بإصلاح القضاء وبالعمل المهني والأخلاقي والقانوني واتباع الاجراءات والخطوات التي تدقّق في كل الاحتمالات قبل الحسم، فنعرض لهم في ما يأتي بعض الملاحظات الاولية عن التحقيق الجاري، ونلقي الضوء على بعض المحاذير.

التعامل مع مسرح الجريمة
لا يمكن اعتبار المكان حيث تم العثور على جثامين الضحايا على انه مسرح الجريمة الحصري والوحيد. ففي العلم الجنائي، يعتبر «مسرح الجريمة»، على سبيل المثال لا الحصر:
◄ المكان حيث تم ارتكاب الجرم، القتل مثلاً.
◄ الوسيلة التي نقل المرتكب من خلالها الضحايا من مسرح الجريمة الأول الى مكان آخر، السيارة مثلاً.
◄ منزل المشتبه به/ الضحية.
◄ المكان حيث تم العثور على الضحية.
بالتالي، من المفترض التعامل مع المكان حيث تم العثور على جثامين الضحايا الأربع (المغارة) على أنه جزء من مسارح الجريمة، حتى يَثبُت علميّاً انه مسرح الجريمة الوحيد.

انقر على الصورة لتكبيرها

ولم يثبت حتى كتابة هذا النص ما اذا كانت المغارة هي نفسها مكان ارتكاب جريمة القتل. إذ أن هناك احتمالاً بألا تكون «المغارة» مسرح الجريمة الأول حيث وقعت جريمة القتل، ولا بد من التدقيق في احتمال نقل الجثامين إليها لدفنهم.
من خلال الكشف الفني العلمي الدقيق على المغارة، يمكن تأكيد ما إذا كانت جريمة القتل قد تمت فعلاً فيها، وبالتالي تحديد موقع الضحايا ومطلق النار، وذلك من خلال تتبع وتحليل أنماط تناثر الدماء في المسرح المزعوم للجريمة. وكنا قد عرضنا في العدد الأول من «القوس» هذا الاختصاص العلمي وأهميته في الكشف عن معلومات مهمة تتعلق بتسلسل الأحداث.
الى ذلك، من المفترض البحث والتحرّي عن بقع الدماء التي ربما تم تنظيفها أو اخفاؤها لتضليل التحقيق، وذلك باستعمال تقنيات الإضاءة والاشعة المناسبة والفحوصات الكيميائية. ولا يفترض ان يقتصر هذا البحث على موقع المغارة وحده، بل أن يشمل المنطقة المحيطة بها والطريق الذي يوصل اليها. ولا بد أيضاً من معاينة سيارة المشتبه فيه بدقة عالية والتفصيل المملّ، للتحري عن أي آثار دماء او غيرها يمكن ان تفيد التحقيق.
يفترض اعتبار الأماكن التالية «مسارح جريمة» يحظّر الدخول اليها الا من قِبل المحققين الجنائيين حتى ختم التحقيق:
◄ المغارة ومحيطها
لا يبدو ان مسرح الجريمة كان مغلقاً. اذ لم يمنع دخول أشخاص غير معنيين اليه، بل ظهر أنه كان مباحاً لمراسلي المحطات التلفزيونية الذين دخلوا إليه مع كاميراتهم والتقطوا صوراً نشرت في وسائل الاعلام. هذا التصرف غير المهني يخرج عن الإطار الأخلاقي، وأدى على الأرجح الى تدمير وفقدان العديد من الأدلة الحيوية، إضافة الى أدلة أخرى سهلة التدمير كآثار الأحذية مثلاً. بالتالي، كان من المفترض حماية المغارة ومحيطها من العبث والتدخل البشري والظروف المناخية للتمكن من البحث عن بقايا أدلة الأثر، مثل الشعر والالياف وغيرها، باستعمال التقنيات والأساليب العلمية المناسبة.
◄ سيارة المشتبه به
لا بد من الحجز على سيارة المشتبه به وحمايتها من العبث، وأن يقوم الخبراء بالكشف الجنائي الدقيق عليها باستعمال المجاهر الالكترونية وتقنيات الإضاءة والأشعة المختلفة.
◄ منزل المشتبه به/الضحايا
من المفترض ختم المنزلين بالشمع الأحمر لتمكين الخبراء من البحث الدقيق في كل الغرف ورفع الأدلة وتدوين الملاحظات التي يمكن ان تفيد التحقيق. وما رأيناه في الاعلام من دخول أحد المراسلين الصحافيين الى منزل الضحايا والعبث بمقتنياتهن، عدا عن انه غير أخلاقي ومعيب، يعدّ تدميراً لأدلة ظرفية مفيدة للتحقيقات.

إكرام الميّت كشف الحقيقة
صحيح ان إكرام الميت دفنه، الا ان إكرام الضحايا الأربع وذويهم يكون كذلك من خلال تحقيق العدالة وإحقاق الحق. ورغم من ان الجثث متحللة بدرجة عالية، بحسب ما نقل عن الطبيب الشرعي، الا ان الخبراء الجنائيين ما زالوا قادرين على رفع أدلة مهمة من الجثامين. إذ يفترض تشريح الجثث، وأخذ عينات من المناطق التناسلية والشرجية، وعينات من تحت الاظافر. وكنا قد قاربنا في «القوس» العدد الثاني أهمية الأدلة علـى يدي الضحية أو المشتبه به، كالخدوش الدفاعية مثلا، وطريقة تناثر الدماء، وأدلة الأثر (شعر، الياف، تربة،... ) ودورها الأساسي في تحديد العلاقة، ليس فقط بين الضحية والجاني وانما مع مسرح الجريمة ايضاً.
من جهة أخرى، من المفترض الاخذ في الاعتبار ظروف المكان حيث دُفنت الضحايا، والتي لها تأثير مباشر على تحديد الوقت منذ الوفاة. فدرجة الحرارة في المغارة وعمق الحفرة والمواد التي طُمرت بها الجثث تؤثر على سرعة تحللها. وعدم الاهتمام بهذه العوامل من القائمين على التحقيق والطبيب الشرعي قد يؤدي الى سوء تقدير الوقت منذ الوفاة، وهو الأمر الذي يعتبر في هذه الجريمة من اهم الأدلة لمعرفة ما إذا تم قتل الضحايا في يوم الاختفاء نفسه ام انهن تعرضن للخطف أولاً.

استباق نتائج التحقيقات
حسب القانون، المتهم هو من يصدر بحقه قرار اتهامي عن السلطات القضائية، الا ان الاعلام والمجتمع يتعاملان مع المشتبه بهما كمتهمين حتى قبل ختم التحقيقات وصدور نتائج المباحث الجنائية العلمية.
استباق نتائج التحقيق غالباً ما ينسف قرينة البراءة، وربما يؤدي - عن قصد او غير قصد - الى افلات مجرمين آخرين إضافيين يمكن ان يكونوا شركاء او مخططين او محرضين الخ.
وقد علت أصوات عديدة تطالب بإعدام المشتبه بهما قبل صدور القرار الاتهامي بحقهما عن القضاء المختصّ وقبل ختم التحقيقات.
من هي السلطة التي يثق بها الناس لكشف الحقائق؟ وسائل الاعلام السريعة أم القضاء البطيء؟


لا يمكن الاعتماد على إفادات المشتبه بهما لإصدار الادانات والاتهامات والاحكام. فمن المفترض ان يتطابق سيناريو المشتبه بهما مع نتائج تحليل الأدلة في مسرح الجريمة. ويفترض ان تقوم المباحث العلمية بإعادة بناء مسرح الجريمة وتسلسل الاحداث، ومن ثم تقيّم المحكمة المستقلة مدى تقارب او تطابق «الأدلة في مسرح الجريمة وعلاقتها المتبادلة» مع «اعترافات المشتبه بهم». فمع تطور تقنيات التحقيق، لم يعد الاعتراف سيّد الأدلة، اذ يمكن ان ينتج عن تهديد او تعذيب او محاولة للتستر عن اشخاص آخرين، بينما الأدلة الجنائية لا تكذب ولا يمكن تزويرها اذا اتبعت الاجراءات المهنية بدقة، والاعتماد عليها أساسي للوصول الى الاستنتاجات العلمية والحكم العادل.

السلاح المتفلت وصناعة الأبطال
حسب ما نقل عن تقرير الطبيب الشرعي، جرى اطلاق النار على الضحايا ببندقية صيد. وهنا ايضاً نستعيد ما نشرناه في العدد السابع من «القوس» عن تراجع تنظيم السلاح الفردي في لبنان وترخيصه. علماً ان سلاح الصيد استخدم في العديد من جرائم القتل خلال السنوات العشر الفائتة.
وقد نقلت وسائل الاعلام روايات عن استدراج المشتبه به السوري الجنسية والقبض عليه، وترافق الخبر مع مشاهد تظهر اطلاق نار كثيف في الهواء بأسلحة حربية من اشخاص مجهولين. وكنا قد تناولنا خطورة الرصاص الطائش. ولم يتبين ما إذا قامت القوى الأمنية والضابطة العدلية بتوقيف أي من مطلقي النار واحالتهم على القضاء لمحاسبتهم.

رغم أن الجثث متحللة بدرجة عالية، بحسب ما نقل عن الطبيب الشرعي، الا ان الخبراء الجنائيين ما زالوا قادرين على رفع أدلة مهمة من الجثامين


تحديد دوافع الجريمة عبر الاعلام
بحسب المعايير العلمية، عندما تكون الدوافع الجرمية غامضة أو يصعب التعرف عليها، يتم تكليف خبير بالعلم الجنائي لتحديد وتقييم الاسباب التي دفعت الفاعل للقيام بالجريمة. فيصف الخبير الأسباب في خلفية المتهم (بيولوجية او اجتماعية او شخصية) والتي من المفترض أنها تسببت في الجريمة. أمّا في هذه القضية، فقد أخذ الاعلاميون وبعض الأطباء النفسيين هذه المهمة الدقيقة على عاتقهم. فبعض الاعلاميين وصف الدافع بـ «الذكوري التافه»، وخلص الى هذه النتيجة بعد تحليله الشخصي لإفادة المشتبه به المسربة. في حين ان طبيباً نفسياً واستاذاً جامعياً وجد ان المشتبه به «بسيكوباتي»، واعترى لقاءه الصحفي الكثير من التناقضات والمغالطات.