موضوع مفقودي الحرب الأهلية اللبنانية، وضحايا الإخفاء القسري، عندما كانت الفوضى الشاملة تسود البلاد، مادة صحفية مهمة حتى ولو لم تكن «ترند». قضية إنسانية هي جرحنا، هي نحن، هي ما آلت إليه أحوالنا؛ وجهنا الحقيقي، ومرآتنا التي تحدق فينا. حين صدر قانون العفو العام عن جميع جرائم الحرب الأهلية اللبنانية، استثنى القانون الإخفاء القسري. كان ذلك دليلاً واضحاً على أن ملف الكشف عن مصير آلاف المفقودين سيطول. تمتّع {أمراء الحرب} بعفو ذاتي، وتُرك الناس لآلامهم. ولذلك، لم يكن غريباً أن تتعثّر عملية البحث عن مصير آلاف المفقودين وأن لا تقوم الدولة بواجباتها بشكل كامل. فالدول والمجتمعات لا تتداوى عادةً بالتناسي. كيف يمكن أن يمرّ الزمن على جريمة متمادية تتكرّر كلما صنعت زوجة مكسورة القلب فنجاني قهوة صباحاً وانتظرت أن يدق الباب؟
بعد انجلاء الحروب ومرحلة الاقتتال الداخلي يُفترض أن تُنشأ هيئات تُسمّى لجان «الحقيقة والمصالحة» كما حدث في جنوب أفريقيا مثلاً. تُكلَّف هذه اللجان بدراسة الانتهاكات الانسانية التي حصلت في النزاعات الماضية، من دون أن يكون هناك رغبة في الصدام، لأن الهدف الأساسي «معرفة ما جرى» كيلا يعاد ويكرر. فالمصالحة تعني أولاً أن يخضع مرتكب العنف إلى جلسة الاستماع التي يديرها المجتمع المحلّي. وبحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية، سمحت تلك الإجراءات للضحايا بأن يوجّهوا لومهم مباشرة إلى المرتكب، إضافة إلى السماح للمرتكب نفسه بأن يطلب المغفرة من المجتمع المحلّي. ينص مبدأ العدالة الانتقالية على «الحق في الحقيقة»، أي حق معرفة الأهل بمصير مفقوديهم، وبظروف اختفائهم. لكن بحسب تقرير نشرته الأمم المتحدة، غالباً ما تُستعمَل المعلومات المرتبطة بالأشخاص المفقودين «ورقة ضغط» في المفاوضات السياسية، وتُستخدم الإحصائيات الدقيقة للمفقودين في الجدل السياسي. ويشير التقرير إلى أن القادة الذين يلعبون دوراً رئيسياً في إدامة النزاع «غالباً ما يظلون شخصيات بارزة في عملية السلام اللاحقة»، ما يصعّب حل قضايا المفقودين. أما في لبنان، سنة 1995، فقد قامت الحكومة بخطوة غير مسبوقة، خفضت على ضوئها مدة الاختفاء لإعلان الوفاة إلى 4 سنوات. سمح القانون رقم (443) لأهالي المفقودين بأن يحرروا شهادة وفاة بحق غائبهم على نية تخفيف الآلام النفسية لأهالي الضحايا، وإيجاد حل لمشكلات الأحوال الشخصية (كقضايا حصر الارث مثلاً)، لكن لجنة أهالي المفقودين رفضته، إذ سيُفقدهم الأمل بعودة مفقوديهم، ولم تكن الدولة وقتها قد اعترفت بعد بالحق في الحقيقة الذي تم لاحقاً عبر مجلس شورى الدولة سنة 2014.
تفاوت في تقدير أعداد المفقودين الحقيقية بين 2.046 و17.000 بسبب عدم دقة المنهجية


أطر التعامل مع القضية
وضعت منظمة الأمم المتحدة تقريراً موسعاً حول أفضل الممارسات الدولية في مسألة المفقودين، وهو شرح تفصيلي للآليات والأطر التي يجب التعامل مع الملف فيها على كافة الصعد الأمنية والاجتماعية والقانونية. صحيح أن الملف صعب، لكن ليس مستحيلاً على الحكومة أن تحقق تقدماً فيه لوشاءت. ففي يوغوسلافيا مثلاً يوجد 40,000 مفقود كانوا ضحية النزاعات المسلحة بين عامي 1991-1995 وقد تم تحديد 70% من هويتهم. وبحسب التقرير، على الدولة أن تراعي الآتي:

1- التوقيت
يجب أن تنشأ آليات استجلاء مصير المفقودين بعد انتهاء النزاع بين الأطراف مباشرة، ويمكن أن تندرج هذه العمليات في نفس خانة التسويات مثل اتفاقات وقف النار والسلام مثلاً. وكلما تأخرت الآلية، ازدادت صعوبة معرفة مصير المفقودين

2- اللجان ذات الصلاحيات
يجب أن يكون للمكلفين صلاحيات تمكّنهم من الوصول السهل إلى المعلومات كمواقع القبور ورفات الموتى، إضافة إلى ضرورة صياغة قانون داخلي ينظم عمل هذه اللجان ويتيح بيئة لتبادل المعلومات التي يجب أن تراعى السرية فيها.

لا خريطة رسمية تكشف عن مواقع المقابر الجماعية


3- القانون
على الدولة أن تمتثل إلى إحدى الطرق التي يروج لها القانون النموذجي الذي وضعته لجنة الصليب الأحمر الدولي.

4- الاختصاصيون
يجب أن يكون هناك تعاون مع فريق من الاختصاصيين الأنتروبولوجيين في الطب الشرعي

5- المعوقات
إذا كان هناك معوقات نتيجة عدم تعاون أطراف النزاع المسلح، يمكن النظر في إنشاء مفوضية دولية.




لا لطيّ الصفحة

(هيثم الموسوي)

في مقابلة أجرتها «القوس» مع الناشطة الحقوقية رجاء بشارة، حمّلت بشارة وسائل الإعلام اللبنانية إلى جانب السياسيين جزءاً كبيراً من ذنب «قلب الصفحة»، وعدم تسليط الضوء على آلاف القصص المعلقة بذريعة عدم الدخول في الفتن. وتسرد حادثة حصلت معها عندما شاركت في أحد النشاطات مع لجنة أهالي المخطوفين: «أذكر وقتها أننا قمنا بحاجز محبة، كنا نوزع الورود على الناس، لكن الأغلبية كانت لا تلتفت إلينا أو ترمينا بالورود التي نقدمها لها». تضيف بشارة أن المشكلة تكمن في أن هذه القضية لم تتحول إلى قضية رأي عام بعد، لأنه لا يوجد من يسمع. ربما من الطبيعي أن يتقاعس من يتولى مناصب الدولة، لاسيما إذا كان شريكاً في الجرائم، عن البحث عن دليل إدانته. لكن كيف سيتم الضغط على المعنيين إذا لم تكسب هذه القضية التأييد الشعبي الذي تلعب في تشكيله وسائل الاعلام دوراً كبيراً؟ وكيف سيحمي الجيل الجديد نفسه من الوقوع في خطيئة آبائه إذا لم يسمع ويشاهد ويلمس الألم ويعرف الحقيقة؟ في هذا الاطار تقوم الدول بعدد من الأنشطة لاحتضان الذكرى المؤلمة التي خلفتها الحرب كما حصل في متحف تشيلي مثلاً (عرض الديكتاتورية العسكرية وتوثيقها)، أو الموقع التذكاري لانتهاكات الحروب في تلة الدستور في جوهانسبورغ، إضافة إلى تنظيم نشاطات تظاهرية (التظاهرات السنوية في 24 آذار في الأرجنتين). كل هذا ينصب في ضوء حفظ وتوثيق الذاكرة الشعبية لاسيما الذاكرة الشفهية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من تراث وذاكرة الأرض.


القانون 105
■ لجميع المخفيّين والمفقودين من المدنيين والعسكريين ولأفراد عائلاتهم:
- الحق في المعرفة.
- الحق في المساواة.
- الحق في الإطّلاع في مسار البحث.
- الحق في الحصول على تعويضات.


الصليب الأحمر يحفظ العيّنات البيولوجية


حُمّلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مسؤولية جمع عينات بيولوجية مرجعية من أهالي المفقودين منذ سنة 2012. وبحسب اللجنة، جُمع حتى الآن أكثر من 2000 عينة بيولوجية مرجعية ومجموعة من بيانات ما قبل الاختفاء تعود إلى 3000 شخص مفقود. قالت اللجنة لـ «القوس» إنها «الجهة الوحيدة التي تخزن البيانات في هذه المرحلة»، لكنها تأمل أن يقود تشكيل الهيئة الوطنية وإقرارقانون (105) إلى تسليم «محتمل» للبيانات. في لبنان، يشار إلى 430 موقعاً للمقابر الجماعية، ولكن لا خريطة رسمية تكشف عن جغرافيتها حتى اليوم. أما في الوسائل الإعلامية، وبحسب تقرير لجنة التحقيقات الأولى، يشارإلى عدد من المقابر موزع على الشكل الآتي: طرابلس، جبيل-البحر، الأشرفية، بعبدا، حرش بيروت، طريق المطار، وزارة الدفاع، البقاع، الجية، صيدا، جزين، كفرحونة، حاصبيا، النبطية، شبعا، مرجعيون وغيرها.


هناك تفاوت في تقدير أعداد المفقودين الحقيقية. فبحسب لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين يُقدّر العدد بـ 17.000 مفقود. أما بحسب التقرير الذي نشرته لجنة التحقيق الأولى فتقدر أعداد المفقودين بـ 2.046 مفقود فقط، علماً أن الإحصائيات لم تُجمع بطريقة منهجية دقيقة. فتقرير اللجنة استند إلى التبليغات التي كانت تصلهم من أهالي الضحايا، الذين بطبيعة الحال، لم يبلّغوا جميعاً، إضافة إلى وجود جنسيات أجنبية عدة من بين المفقودين، خصوصاً فلسطينيين وسوريين.


الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً
«موعودون بتخصيص موازنة»

كُلّفت «الهيئة الوطنية للبحث عن المفقودين والمخفيين قسراً» بحسب المادة (26) من قانون (105) بجمع المعلومات. إلى أين وصلت بعد سنتين على توليها؟ حملت «القوس» هذا السؤال إلى زياد عاشور، العضو الأكاديمي في الهيئة الذي أشار إلى أن الهيئة تتعامل مبدئياً مع الصليب الأحمر الدولي ومع جمعية «نعمل من أجل المفقودين» لجمع المعلومات. لكنّها حتى الآن «لا تمتلك معلومات عن المفقودين»، وما زالت تخضع لـ «اختبار ثقة» من الجهات التي تمتلك البيانات، خصوصاً أن الهيئة الوطنية ما تزال تعاني من الضغوطات السياسية التي تحاول تحييز القضية إلى جهة وزجها في صراع سياسي. ويعلق عاشور بأنه لا يمكن وصف الوضع بالوردي، فأعضاء اللجنة لم يتلقوا حتى الآن بدلات نقل، ولا يوجد لديهم مقر رسمي، لكنه متفائل بالتوجه الحكومي لمنح مركز للهيئة ودفع بدلات مالية خصوصاً أنهم «موعودون بتخصيص الدولة شيئاً من موازنتها لهم»، وبتوجهها لتعيين أربعة أعضاء جدد بدل الذين استقالوا من الهيئة. أما حول عملهم الحالي في ظل عدم امتلاك البيانات، فأشار إلى أنهم «مشغولون بوضع أنظمة داخلية للهيئة» حتى تستطيع اللجنة التي تتولى الإدارة بعدهم الانطلاق.