
ما يحدث اليوم ينبئ بخطيئةٍ ثالثةٍ قيد التشكّل. ففي الوقت الذي مُرِّر فيه المرسوم 6433 في تشرين الأوّل 2011 مع تجاهل معطياتٍ موجودة لم توضع على طاولة مجلس الوزراء آنذاك كانت لتغّير مجرى الملفّ، تجري تنازلات اليوم أمام أعين اللبنانيين جهاراً نهاراً. لم تكن مصلحة الهيدروغرافيا في الجيش الّلبناني موجودة سنة 2011. إذ أُنشئت سنة 2014 وجُهّزت بأحدث التقنيّات ودُرّب عديدها أفضل التدريب لكي يقوموا بمسؤوليّاتهم الوطنيّة المتمثّلة بترسيم الحدود البحريّة، وقد قاموا بدورهم هذا على أكمل وجه وأكّدت نتائجهم دراسة العقيد الركن البحري مازن بصبوص والتي بدورها أكّدت نتائج المعهد الهيدروغرافي البريطاني، نفس النتائج التي بُيّتت في الأدراج في تمّوز 2011 ولم تُكشف وتُستخدم آنذاك لتعظيم المصلحة الوطنيّة.

منذ سنة 2011 علِم أهل السياسة أو معظمهم بتفاصيل الحقّ اللبناني ولم يحرّكوا ساكناً، وكنّا ننتقل من وسيطٍ أمريكي الى أخر نطالب بـ 860 كلم2 في حين كنّا نعلم بأنّ القانون الدولي يقول بحقّنا بـ 1430 كلم2 إضافّية، فيما كان العدو ينقّب ويطوّر بحقل كريش الواقع بشطره الشمالي كاملاً شمال الخطّ اللبناني 29. استيقظ ملفّ الحقّ اللبناني مجدّداً في نيسان 2020 عندما كلّف رئيس الجمهورية الجيش اللبناني باستكمال ملف ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة حيث أعيدت دراسة الملفّ بصورة معمّقة وتمّ التوصّل إلى ضرورة إجراء التعديل على المرسوم 6433 لاستبدال الخطّ المُجحف 23 بالخطّ 29 وإعادة الأمور الى نصابها. ولكنّ المرسوم الذي كان من المفترض أن يُعدّل في جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 21 تمّوز 2021، لم يُعدّل. وكدنا كلبنانيين في 13 تشرين الأوّل 2020 أن نثبّت إطاراً تقنيّاً وقانونيّاً للمفاوضات عبر بيان رئاسة الجمهوريّة عشيّة انطلاق جولة المفاوضات غير المباشرة الأولى في الناقورة. لكنّ الوفد المفاوض الذي لم يتزحزح في الناقورة متّكئاً على التفويض المذكور، قابله انكفاء السياسيين عن دعمه.
معركة الخطّ 29 ليست معركة سيادة في القسم المتعلّق ببحرنا فحسب، بل هي معركة ثروات لا يحقّ لأحد التنازل عنها
لبنان، باقتصاده المنهار يحتاج إلى كامل ثرواته في أيّ مسعى لقيامته، وثرواته الواعدة في مياهه الجنوبيّة على رأسها. فمعركة الخطّ 29 ليست معركة سيادة في القسم المتعلّق ببحرنا فحسب، بل هي معركة ثروات لا يحقّ لأحد التنازل عنها. فثروات الغاز والنفط ثرواتٌ ناضبة بطبيعتها. إن لم ندافع عنها ونحافظ عليها ونعمل على استثمارها سيسلبها العدو على المديين القريب والمتوسّط وستذوي قيمتها على المدى البعيد مع حلول الطاقة المتجدّدة مكان الأحفوريّة. من هنا أهمّية إعادة وضع قطار الحقّ اللبناني على سكّته الصحيحة عبر توقيع المرسوم 6433 المعدّل وإيداع الخطّ 29 الأمم المتّحدة. الوسيط الأمريكي، أيّاً كان وفي أيّ مفاوضات عضد العدو، والمُستجير به كالمستجير من الرمضاء بالنار. وحده توقيع المرسوم 6433 المعدّل وإيداع الخطّ 29 الأمم المتّحدة، والاصطفاف الوطني خلف الحقّ اللبناني المتمثّل بالخطّ 29، يجفّل شركات العدو عن التنقيب والتطوير. ووحده يُعيد العدوَّ مُرغماً للمفاوضات انطلاقاً من إطارٍ تقنيٍّ وقانونيٍّ واضحٍ يعظّم المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة.