زادت مساحة المناطق الحضرية في لبنان من 221 كلم مربع عام 1963 إلى 741 كلم مربع عام 2005 (أكثر من ثلاثة أضعاف)، فيما من المتوقع أن تصل هذه المساحة عام 2030 إلى 884 كلم مربع.هذا التمدّد العمراني السريع الذي سببته عوامل الحروب والهجرة والنزوح من الريف، والذي عزّزه النموذج الاقتصادي القائم، لم ترافقه أي خطط ورؤى واستراتيجيات تأخذ بالاعتبار مبادئ التنظيم المديني. وعوضاً من أن تجهد الدولة في تدارك هذا المسار العشوائي وتصويبه عبر وضع سياسات مدينية، مضت في «عشوائيتها» التي أنتجت مدناً مكتظة، غير آمنة، وغير عادلة.
87% من المُقيمين في لبنان يقطنون في المناطق الحضرية، 64% من هؤلاء يعيشون في المدن الكبرى (بيروت، طرابلس، زحلة، صيدا وصور)، وفق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN HABITAT) الذي أطلق، أمس، التقرير التشخيصي عن «السياسات المدينية الوطنية» بالتعاون مع رابطة المهندسين الاختصاصيين في التنظيم المديني في نقابة المهندسين في بيروت، في مبنى النقابة في بيروت.

مخططات التوجيه أقرب إلى قواعد استعمالات الأراضي (مروان طحطح)

عملياً، لم يُقدّم التقرير أي أرقام «جديدة» تتعلّق بتمركز السكان وتوزّعهم بقدر ما عمل على تفنيد القطاعات المتشابكة المرتبطة بملف المدن والسكن «سعياً إلى خلق إطار واسع للسياسات المرتبطة بالمدينة»، على حدّ تعبير مسؤولة المتابعة والتقييم في البرنامج مايا مجذوب، مُشيرةً إلى أنّ التقرير يُشكّل أداة توجيه لعملية التخطيط.
من هنا، «يناقش» التقرير كل قطاع من القطاعات المرتبطة بهذا الملف على حدة: ملف النقل، النفايات المنزلية الصلبة، المياه (...)، عارضاً الأرقام والوقائع المتعلّقة به، ومقترحاً وضع سياسة خاصة بكل قطاع.
مثلاً، على صعيد قطاع النقل، يذكر التقرير أن أعداد المركبات تضاعف في لبنان بعد فترة السبعينيات بنسبة 540%، فيما يبلغ معدّل السيارات الخاصة نحو 300 سيارة لكل 100 شخص! وإذ تبلغ كلفة زحمة السيارات في لبنان نحو ملياري دولار سنوياً، تُشكّل كلفة حوادث المرور نحو 1.5% من الناتج الوطني الإجمالي.
كذلك، يُشير التقرير إلى أنّ 66% من المقيمين في الضواحي فقط، لديهم إمكانية للحصول على المياه. أمّا على صعيد النفايات الصلبة، فيُذكّر التقرير بأنّ لبنان يُنتج يومياً 6500 طن من النفايات، 15% منها فقط يُعاد تدويره!
الانطلاق من هذه الوقائع يأتي في سياق التذكير بأن التنظيم المديني مرتبط بكافة القطاعات الخدماتية الأخرى، وبالتالي إنّ غياب التخطيط هو المُسبب الرئيسي للواقع المزري الذي لا يطاول المدن فقط، بل يشمل كل المناطق. إذ إنّ التركّز في المدن أسهم في إضعاف بقية المناطق على الصعيد الإنمائي.
هذا التمركز ما كان ليحصل لولا طبيعة النظام الاقتصادي الريعي الذي عزّز مسألة السكن في المدينة. رئيس المؤسسة العامة للإسكان، روني لحود، رأى في هذا الصدد أن تحريك ملف الإسكان أساسي لتحريك النهوض الاقتصادي، لافتاً إلى ضرورة عدم التشجيع على السكن في بيروت، في خطوة أساسية لإعادة تصويب واقع السكن الحالي.
يغيب مفهوم المناطق الحضرية في القوانين اللبنانية


إلى ذلك، يُركّز التقرير على أهمية «توحيد» الجهات المعنية في ملف التنظيم المديني، لافتاً إلى تشعّب الجهات التي تديره، من وزارة الأشغال العامة، إلى البلديات، مروراً بمجلس الإنماء والإعمار، فضلاً عن جهات مدنية وغيرها، وموصياً بضرورة إنشاء مؤسسة توحد الجهود وتختص بالتصميم والتخطيط المديني. مدير مكتب البرنامج في بيروت طارق عسيران، قال إن إلغاء وزارة الشؤون للتخطيط دليل على غياب الإرادة الفعلية بوضع رؤية مستقبلية لأيّ عملية تخطيط، «ما يعني أن النهج القائم على التدمير مستمر».
وفيما لفت نقيب المهندسين في بيروت جاد تابت، إلى قوانين البناء «المتخلّفة» التي لا تراعي الأدوار الوظيفية للعمران، انتقد المجلس الأعلى للتنظيم المدني «الذي لا يقوم بدوره»، مُشيراً إلى تداعيات الفوضى العمرانية التي بدأت تتفاقم والتي تتجلّى بتعاظم الفجوة في المناطق الحضرية نفسها، بين المدن الرئيسية وضواحيها، «وهو ما يولّد عنفاً يهدد الأمن الاجتماعي»، على حدّ تعبير الخبير في التخطيط الحضري ليفون تلفزيان.
اللافت هو ما يُشير إليه الأخير لجهة أن عدم التخطيط والانضباط يُسهم في خلق «المناطق المهمّشة» التي تتعرّض تلقائياً للإقصاء. ويُضيف في هذا الصدد: «العنف يكون أيضاً عبر استبدال نسيج عمراني بآخر واستبدال طبقات اجتماعية بأخرى من دون مراعاة الأسس الراعية للتنظيم المديني». ينطلق تلفزيان من هذه النقطة، ليشير إلى أن هذا الواقع وليد منظومة تشريعية كاملة، فهي ليست منفصلة عن قانون الإيجارات الجديد، ولا عن قوانين البناء، ولا عن مخططات التوجيه التي هي «أقرب إلى قواعد استعمالات الأراضي فقط من دون النظر إلى الديناميات الاجتماعية»، فيما يخلُص التقرير في هذا الصدد إلى غياب مفهوم المناطق الحضرية في القوانين اللبنانية.
وفق تابت، إنّ ثلثي الأراضي اللبنانية غير منظّمة، مُشيراً إلى غياب الرؤى الاستراتيجية للخروج من المأزق الذي سببته السياسات الخاطئة.
ولعلّ الخلاصة الأبرز التي اجتمع عليها المؤتمرون تتلخّص بما يُشبه دقّ ناقوس الخطر من تداعيات التمدّن العشوائي للمدن التي بدأت تظهر وتتفاقم وتحتاج تالياً إلى معالجات سريعة.