«كَوني كاتباً أمر لا يعجبني. كان بودِّي أن أكون عالم آثار، أو عالم لغة، أو أن تكون لي ورشة ميكانيك صغيرة في حي غير معروف». هكذا اختزل الأرجنتيني أرنستو ساباتو (1911 ـــــ 2011)، رغباته المؤجّلة، لكن عالم الفيزياء سيجد نفسه مدفوعاً إلى الأدب كرد على همجية العالم. كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها، حين كتب الروائي الأرجنتيني الشهير باكورته «النفق» (1948). رسام أعمى ومهووس، يقتل المرأة الوحيدة التي اكتشفت لغز إحدى لوحاته. مناخات ساباتو الذي غادرنا قبل يومين عن 99 عاماً، تتقاطع مع صنيع مواطنه خورخي بورخيس، فكلاهما اشتغل على المتاهة. في «أبطال وقبور» (1961)، سيوسّع جغرافية الجريمة، لتشمل الكون، فالعالم لم يشفَ من همجيته، رغم اتساع محيط المعرفة. لن نقع في ثلاثية «النفق»، و«أبطال وقبور»، و«ملاك الجحيم» (1974) على تفسير لما يحدث. هناك لغز مبهم يصعب التقاط جوهره، مما ينعكس على سرد ساباتو نفسه. سرد متشكك وزئبقي ونافر، في لهاث لغوي محتدم، يمزج عناصر التاريخ والحياة الأرجنتينية في مرجل ملتهب. يؤكد صاحب «الكاتب وكوابيسه» على «الكذبة الملفّقة» التي صدرتها التقنية المتقدمة للعالم، مساهمةً في «تسريع وتيرة الكارثة التي تحدق بالإنسانية».
الكاتب الذي عاش قرناً كاملاً، عبرَ أنفاقاً ومتاهات متعددة، كي يتمكن من «تقيّؤ عذابه الداخلي». على هذا الأساس، لن نستغرب تحولاته المتناقضة، من شيوعي صلب، إلى فوضوي مسيحي، إلى متمرد صاخب، يمتلك مجموعة شكوك عن عذاباته الخاصة، وليست لديه أية رغبة في أن يسأله أحد تفسيراً لما يكتب.
لم ينل ساباتو عربياً الشهرة التي يستحقها مقارنةً بكتاب أميركا اللاتينية، ولا شهرة بورخيس، ولا حتى مواطنه مارادونا، هو لم يعمل في منطقة الواقعية السحرية التي صدّرت أسماءً إلى لغة الضاد، بل بحث عن تلك «المتاهة التي تقود إلى سرّ حياتنا المركزي» كما انساق إلى كتابة السير المبهمة.
كان ساباتو قد أوضح مفهومه للرواية في «الكاتب وكوابيسه» لكنه في «الممانعة»، و«قبل النهاية» فتح القوس أكبر نحو قضايا وجودية تلح عليه، وذلك عبر وصايا روحية ورسائل وتقارير، تتعلق بالقيم القديمة، والمدن، والممانعة، والموت، والأرض اليباب، والمؤسسات الرسمية التي تتحكم في مصائر البشر.