كانت دموعي قد بدأت تُذرف عند انتصاف الليل. أخذت تتساقط بخجل وصمت في دقائق ولادتها الاولى. موسيقاها هادئة وإيقاعها بطيء. قفزت الدمعة تلو الاخرى من أعلى طرف عيني وتهاوت على سطح الاشياء، مُبَدَّدة. كان الأمر برمّته أشبه بانتحار أفراد قفزوا من تلة عالية كل بضع ثوان. كان لدموعي مذاق مالح. كانت الدموع حارة، ملتهبة. سرعان ما صار هذا الانتحار جماعياً. فيض من الدموع أطلق العنان لنفسه، لم يُكبح جماحه، سالت الدموع بهيجان، سالت بأنارخيّة مؤدلجة. تفجّرت من كل صوب وتناثرت بوقاحة في كل مكان. خُيِّلَ إليّ أن بإمكان انهمار الدموع هذا أن يُحدث معجزة ايكولوجية، أي ظاهرة طبيعية جديدة، تتسبب في ارتفاع منسوب المياه في شواطئ حيفا، تغطي الساحل، وتُغرق البيوت في البلدة التحتا ثم تضرب الهادار موجة، تبتلع فيها شارع عبّاس، وتمحو القطّين اللذين يتناكحان تحت شباكي كلياً عن الوجود.
القطان المتناكحان هما السبب في بكائي. لم أعرف قط ما الذي أراداه منّي. يدلفان من خبايا هذه الارض متقصدين الشارع الذي أسكنه، باحثَيْن عن ذلك الركن الذي يقع تحت شباك غرفة نومي لكي يفعلاها. يتناكح هذان القطان تحت شباكي كل يوم منذ أسبوعين. يصدران أصواتا غير بشرية، أقصد بأصوات لا يمكن للأذن البشرية التعرّض لها لزمن طويل، لأنها قد تتسبب بفقدان العقل والصواب، أو صوابي أنا على الاقل. لم أعد احتملها، كل ليلة، يأتيان، ينغصان عليّ ليلتي بالموااااء والمياااء. أذهب الى النوم منكوحة الاذنين والعقل. ثم تعروني الكوابيس. إن هذه الكوابيس ليست تماماً كوابيس. إنها مشاهد عرفتها خلال حياتي. قد يطرأ عليها بعض التغييرات في هذه الجزئية أو تلك، قد تتشكل من مادة جديدة، قد تجبل من وعيي الراهن للأشياء. لكن لا مفرّ من السمات الصافية لاحداث من الواقع.
أفتح شباك نومي، تلاطفني نسمة باردة، أخبّئ صدري العاري بيدي، ثم أخرج رأسي منه وأطلق "هشششش"، يعلو صوت موائهما كأنني حاولت الهتاف وتشجيعهما. أحاول إسكاتهما ثانية، "شششششششش". يخرج الجيران البهائيون من شبابيكهم يطلبون مني التزامَ الصمت. قالت لي جارتي الروسية ذات يوم ــ التي قام بعض الرجال باقتحام بيتها وأخذها الى مركز طيرة الكرمل للصحة النفسية ــ إن البهائيين لا يتحدثون العبريّة، وهي في المقابل لا تعرف الانجليزية، لكن استطاعت أن تفهم منهم، بطريقة أو بأخرى، أنهم يقدسون الهدوء ويكرهون الضجة. أصيح بجيراني البهائيين قائلة إنني لست أنا مصدر هذه الاصوات، بل هذا الثنائي من القطط. قالوا: "رجاءً أيتها الجارة، هل بإمكانك أنت ومن معك إخفاض صوتيكما؟". أسرعت بالقول إنه لا أحد هنا سواي، وإن تلك الاصوات تصدر عن القطّين، إنهما يتناكحان، ألا تسمعون؟ ولكن سرعان ما يغلق الجيران شبابيكهم في وجهي. يعود الاثنان الى مواءٍ شديد. أهرول على الدرج الى الخارج، أريد طردهما من هنا نهائياً. أقوم بتمشيط المكان بحثاً عنهما، لا أجدهما، رغم أن صوت النكاح لا يفارق أذني. يقترب مني شخص في العتمة. أنت عارية، قالت اليد وقامت بقطف ثديي. فررت عائدة الى شقتي.

■ ■ ■


أليسَ بوسع حيفا الانشطار الى نصفين وابتلاع هذين الهرّين لتعاود من ثم الالتئام ثانية؟

■ ■ ■


أجول الوعر الذي يحيط بيتنا في القرية. أتنقل قفزاً من صخرة الى أخرى. أشجار الزيتون شاهقة. أكره هذه الاشجار، لكن يحبها الجميع. يقول لي أبي إننا لم نعد في كندا، وإن هذا ما يفعله الناس هنا في هذا الفصل من السنة، يقطفون الزيتون. يقول لي إن هذا الحدث هو بمثابة عيد، تتجمع فيه العائلة وتنشد الاغاني وتروي القصص أثناء قطفها للزيتون. إننا لم نعد في كندا، هيا اجلسي الآن على الحصيرة، قومي بتقليد أولاد وبنات عمك، افعلي كما يفعلون. عندما كنا بعُمر جيلكم، كانت هذه الفترة المفضّلة لدينا من السنة. أعلن انني بحاجة الى مرحاض. يقول أبي ان أذهب لفعلها خلف الصخر، ثم يحكي أنه عندما كانوا صغاراً كانوا يمسحون مؤخراتهم بالحجارة عند قضاء الحاجة، ليس فقط عند موسم الزيتون، يقول مقهقهاً. ولكنني معفاة من ذلك الفعل، لأنه يوجد معنا ورق التواليت لحسن حظي، يقول. أتناول منه الورق وأشرع في الابتعاد عن التجمع العائلي بحثاً عن زاوية آمنة أقضي فيها حاجتي. أواصل الابتعاد والبحث عن ذلك الركن. أمشي لساعات متواصلة، لا يبحث عني أحد. يتمزق الصندل الذي انتعله، انتزعه ثم أواصل حافية، تجرحني الارض، تشتد حاجتي للتبوّل، تنكبّ الامطار من السماء، أخلع سروالي القصير، يظهر الركن الآمن، انحني، وبدلاً من سقوط سائل شفاف من بين فخذي، يتساقط مني الدم. يظهر قطٌّ فجأة أمامي، يلعق الدم عن جسدي، أركله برفسة قوية، يظهر قط آخر بين رجلي، أركله هو أيضاً، أرفع سروالي، يفرّ منّي الركن الآمن، يتوارى خلف أشجار الزيتون.
بحثت عن طريق أعود منه الى عائلتي. كنت رطبة مبتلّة، تتساقط عني حبّات المطر، وقطرات الدمع والدم. ظهرت أمامي قريبتي، قالت إنها كانت تبحث عني، حتى إنها أرسلت نمّور ولوسي لإيجادي. لا يهم، لم أتغيّب طويلاً على كل حال. أخذتني بين يديها، حملتني وعادت بي الى الحصيرة.
■ ■ ■


لا أثر لهما في النهار عادة، فيكون بوسعي متابعة حياتي. ذهبت ذات يوم لارتشاف القهوة عند شارع مسادة. كانت المرة الاولى التي أذهب فيها الى هذا المقهى الذي يدعى أيضا "مسادة". كان الطقس مشمساً لطيفاً، ورائحة القهوة تعمّ الارجاء. كان في نيتي إمضاء النهار خلف شاشة حاسوبي لكي أنجز أكبر عدد ممكن من المهام في هذا المقهى الذي سمعت عنه الكثير. إلا أنه في اللحظة التي حطّت قدمي داخل مسادة، راودني إحساس بأنني لن أكون ذات الانسان عند خروجي من هنا. وقفت مكاني لبرهة ونظرت من حولي، كانت ثلاثة كلاب تحتجز ثلاث طاولات، وثلاث قطط قد توزعت في أرجاء مختلفة من المكان، حتى إن إحدى القطط كانت ملتفة حول نفسها كالثعبان على مقعد خاص للبار. حاولت أن أبدو طبيعية أمام هذا المرأى، والمحافظة على توازني النفسي. سارعت في البحث عن وجه بشري، لم أكن أعرف أنني أدخل مقهى للحيوانات. لم يحدثني أحد بهذا الشأن. سمعت أحدهم يفتح الحنفية داخل الحمام. ثم خرج شاب بدا أنه يعمل في المكان. هل أجهز لكِ القهوة؟ قلت نعم، شكراً. يمكنكِ الجلوس بينما أقوم بتجهيزها. صحيح، شكراً. قمت بتوصيل حاسوبي الى الكهرباء، ثم جلست في الكرسي. أحضر لي العامل فنجان القهوة. كنت أخيراً قد بدأت أشعر بنوع من الراحة، ارتشفت القهوة، وقمت بتسجيل بعض الملاحظات، الا أنني لم أصدق ما رأيته حين رفعت رأسي عن الشاشة. كانا هما! لقد دلفا خلسة داخل المقهى واتخذا طاولة لهما. كنت متأكدة أنهما ذات الهرّين اللذين يتناكحان تحت شباك غرفتي، رغم أنني لم أقدر على تمييزهما في العتمة. تخبّطت قليلاً وتحيّرت في أمرهما. لم أكن أعرف ما الذي ينبغي علي فعله، هل ادنو منهما طالبة بلطف الكف عن النكاح تحت شباكي؟ لا، ليس بإمكاني التكلم الى قطط، قد يحسبونني مجنونة، وينتهي امري في ردهات طيرة الكرمل. شرعت في لملمة أشيائي للمغادرة، وبينما كنت انتظر ان يأتيني العامل بالفاتورة، قام أحد الهرّين بلعق الآخر، فأخذ الثاني يموء ويطلق تلك الاصوات التي قضّت مضجعي وسلبت مني راحتي. وجدت نفسي استحضر حركة واحدة تلقائية رفست بها هذين الهرّين بكل ما أوتيت من قوة، حتى ارتطم رأساهما بالسقف، ثم فرّا هاربين من المقهى. نبحت الكلاب، وصاح بي العامل ثم طردني من المقهى، فحملت نفسي الى حارات الكرمل.

* قاصّة من فلسطين