فخري صالح *ينتسب غالب هلسا (1932 ــ 1989) إلى مصر أكثر مما ينتسب إلى وطنه الأردن، لأسباب تتصل بشخصياته الروائية والجغرافيا التخيلية، التي تتحرك في فضائها تلك الشخصيات، فهو في معظم أعماله الروائية، يتحرك ضمن الفضاء السياسي والاجتماعي المصري لقاهرة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لا يشذّ عن ذلك من أعماله الروائية إلا «سلطانة» (1987)، التي تتخذ من المكان والشخصيات والأحداث والذكريات الأردنية مادة روائية تستعيدها من الطفولة.
أما في باقي أعماله الروائية، فإنّ هلسا يكتب عن القاهرة، ويبني من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمشين في معظم الأحيان، ومن نقاشات اليسار المصري وانشقاقاته، عالمه السردي، مازجاً ذلك كله بتذكرات شخصية «غالب»، أو «خالد»، الذي عادة ما يأخذ دور الراوي، وتتصفى من خلال رؤيته باقي الرؤى التي تحملها باقي الشخصيات. وتذكرنا هذه الشخصية من حين إلى آخر بماضيها أو بطفولتها البعيدة في مسقط رأس غالب هلسا، وبلدته ماعين، أو مكان دراسته الإعدادية والثانوية في مادبا، ومدرسة المطران في عمان.

من هنا يبدو عالم غالب هلسا، الذي غادر الأردن لآخر مرة عام 1956 ولم يعد إلا محمولاً على نعش يوم وفاته (18 كانون الأول/ ديسمبر 1989)، مسكوناً بالحياة الثقافية والسياسية المصرية في فترة معقدة من تاريخ العلاقة بين اليسار المصري والحكم الناصري في خمسينات القرن الماضي وستيناته. وتتصل الجغرافيا التخيلية لروايات غالب وقصصه بتلك الحقبة الزمنية التي عمل فيها الكاتب في كل من «وكالة أنباء الصين الجديدة» ثم «وكالة أنباء ألمانيا الديموقراطية» لفترة تتجاوز 16 عاماً، مشاركاً بفاعلية في الحياة الثقافية المصرية، إلى أن أبعد من القاهرة بأمر من السادات عام 1978 مغادراً إلى بغداد ثم إلى بيروت عام 1979، ومن ثمّ إلى دمشق بعد الحصار الإسرائيلي عام 1982.
ولعل اتصال غالب الحميميّ بالبيئة المصرية، وصعود اسمه كروائي وناقد على صفحات مجلات اليسار المصري وصحفه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، جعلا هويته الجغرافية ملتبسة بالنسبة إلى العديد من النقاد والباحثين، إلى درجة انعكست على الأبحاث والدراسات التي كتبت عن الرواية في الأردن. أدرج غالب في بعض هذه الدراسات، وأُقصي عن بعضها الآخر. وأنا لا أعرف في الحقيقة في ما إذا كان هاجس الهوية مدعاة للتفكر الشخصي بالنسبة إلى غالب، فهو كان مصري اللهجة، ظل يتحدث بها أينما ذهب، بعد إبعاده عن مصر مازجاً تلك اللهجة من حين إلى آخر بلهجات العواصم التي سكنها، كما ظل يختزن العوالم القاهرية ليعيد إنتاجها في رواياته التي كتبها لاحقاً، غير قادر على التخلص من مخزون السنوات الاثنتين والعشرين التي عاشها في القاهرة. ويمكن أن نلحظ ذلك في أعماله الروائية الأولى التي كتبها في القاهرة، «الضحك» (1970)، و«الخماسين» (1975) و«السؤال» (1979)، و«البكاء على الأطلال» (1980)، وحتى في عملين أخيرين «ثلاثة وجوه لبغداد» (1984)، و«الروائيون» (1988) التي ينتحر فيها بطله غالب، ممروراً معتزلاً العالم وشاعراً بالخراب الذي يسكن التاريخ.
لكن الحنين الجارف إلى مسقط الرأس تجلى في بعض أعمال هلسا الروائية، على هيئة تذكّر جانبي أحياناً أو من خلال إفراد رواية كاملة (سلطانة)، يستعيد فيها الكاتب ذكريات الطفولة البعيدة، معيداً تتبّع خطى بطله في طفولته وصباه، ما يجعل «سلطانة» قريبة من روايات التكوين والتعلم، ويجعلنا نعيد النظر إلى أعماله الروائية الأولى على ضوء هذه الرواية المميزة لغةً وشخصيات وطرائقَ حكي، واصلين عالم «سلطانة» بتلك التذكّرات الجانبية التي نعثر عليها في قصصه ورواياته الأخرى.
من هنا، يبدو من الصعب انتزاع غالب من حنينه الطفولي إلى مسقط رأسه، وتغليب مرحلة الشباب والنضج على خلفية نموه الثقافي والأدبي. إن هواجس الطفولة وأحلامها واستيهاماتها عوامل أساسية في تكوين الشخصية الإنسانية، وقد برزت مرحلة الطفولة والصبا في أعمال غالب الأخيرة كنوع من الاستعادة الحميميّة لذكريات الطفولة التي غيّبها النسيانُ وتراكمُ المشكلات اليومية وضغطُ حاجات العيش. ومن ثمّ فقد فتح الروائي الأردني خزائن ذاكرته وأعاد عجن هذه الذكريات مع أحلامه واستيهاماته وطريقة نظره إلى مسقط رأسه وسنوات تكونه. ولا تهمنا بالطبع صحة هذه الاستيهامات، التي ترد على الدوام في أعمال غالب على هيئة حلم يقظة طويل يعيد فيه الراوي غالب تشكيل العالم من حوله، بل إن ما يهمنا هو قدرة روائي متميز مثل هلسا على اللجوء إلى ذاكرة الطفل فيه لينبش عالما كان منسياً داخله.
«البكاء على الأطلال» محاولة لإضاءة نص روائي حداثي يعتمد الحلم بصورة أساسية
ولعل كتابة غالب لـ «سلطانة»، بوصفها الرواية الوحيدة المكتوبة ضمن جغرافيا أردنية، هي ما أعاده إلى مسقط رأسه إبداعياً، إلى حد أنها ذكرتنا بـ «زنوج وبدو وفلاحون» (1976) التي كانت عملاً قصصياً ــ روائياً نهل من بيئة سياسية واجتماعية غير البيئة القاهرية، لكن يد الموت التي اختطفت غالب في نهاية الثمانينات جعلت من «سلطانة» رواية وحيدة منقطعة السياق تقريباً عن أعماله الروائية الأخرى، وهي الرواية التي مثّلت مع «زنوج وبدو وفلاحون» نوعاً من الثنائية السردية الضدية، حيث تعيد «سلطانة» تأمل الطفولة البكر، والعالم الفردوسي، فيما تصور «زنوج وبدو وفلاحون» قسوة العلاقات الاجتماعية التي تربط البدو بأهالي القرى، وتقيم مراتبية مقلوبة يتسم بها مجتمع البداوة.
يمكن النظر إلى أعمال غالب الروائية، استناداً إلى هذه الخلفية، بوصفها توتراً بين الفضاء المديني الصاخب المعقد والمكان الريفي البسيط الذي يرتبط بالحلم الفردوسي وحضن الأم والشعور بالحماية الذي افتقده الراوي في أعمال غالب، التي تتخذ من المدينة فضاء لحركة شخصياتها. ويتجلى هذا التوتر، الذي يتخذ هيئة قوس مشدود على مدار السرد في معظم روايات غالب، في الحضور الوافر للأحلام، وأحلام اليقظة بصورة أساسية، التي تقطع سياق السرد وتعيد الرواية في العادة إلى الطفولة وفردوسها الريفي المفقود. بهذا المعنى، تمثل المدينة في عالم هلسا كياناً مهدداً باعثاً على الرعب وعدم الاستقرار وافتقاد الطمأنينة، مهما كانت هذه المدينة: القاهرة، أو عمان أو بغداد. لتوضيح الرؤية السابقة سآخذ عملين روائيين لغالب هلسا هما «الضحك»، وهي أولى رواياته، و«البكاء على الأطلال»، وهي من بين أعماله التي نشرها في بداية الثمانينات، وإن كانت مكتوبة في القاهرة في فترة سابقة عام 1975، لنرى صيغة التوتر في كل من الروايتين بين فضاء القاهرة وأحلام الراوي وتذكراته لطفولته ومطلع شبابه. يبدأ الفصل الأول من «الضحك»، وعنوانه «جنة اليقين» الذي يوحي بمفارقة ضدية، بوصف لحالة الراوي بعدما أقام علاقة جنسية مع بغيّ. كل ما في هذا الفصل من الرواية يوحي بالشعور بالدنس والقذارة، وامتزاج الروائح العطرية بروائح العرق والجسد الآثم، بالحنين إلى النظافة وبراءة الطبيعة. يختلط ذلك كله بالإحساس بوجود خطر قريب يتربّص بالراوي دون أن يكون واعياً له، وبحلم يعيد تركيب الخطر والإحساس به.
ومع أننا لا نستطيع تحديد مكان الحلم، إذ أن الراوي يطالع فيه منظراً من قريته مسقط رأسه، حيث يتحدث عن أكوام من الحجارة التي تتكدس كتلال صغيرة، ويحلم بأنه يسير في شوارع مسقوفة تشبه الأنفاق، إلا إننا نتبين في نهاية الفصل أنه «كان يركض في شوارع القاهرة»، التي «كانت خالية واسعة»، و«عماراتها كانت كتلاً صماء كبيرة قد ملأ الظلام فجواتها»، لينتهي إلى غرفة تحقيق ليحاكم بارتكاب جريمة لم يقترفها.
يبدو هذا الفصل إرهاصاً وتكثيفا لما سيحدث في باقي فصول الرواية. إن الراوي، وهو عضو في حزب يساري، يشعر بالخطيئة والدنس والقذارة في المدينة، مطلقِ مدينة، التي تمثل الرذيلة وانحدار القيم والتحلل والتلاشي والإحساس بالبرد بمعناه الفيزيقي والرمزي. لا يخفف من ذلك الإحساس الآمال الكبيرة التي يتشبث بها المثقفون الذين يظهرون في خلفية الرواية، أو علاقة الحب العميقة التي تقوم بين الراوي ونادية، أو الروح الرفاقية التي تنشأ بين المشاركين في معسكر تدريب المتطوعين الذين يرغبون بالدفاع عن المدينة إذا هاجمتها إسرائيل. إن المدينة، التي يتنقل الراوي في شوارعها، وبين مقاهيها وفنادقها، تظل كياناً مهدداً بارداً مصمتاً يتراءى للراوي في أحلامه الهذيانية المتكررة على مدار فصول الرواية.
في مقابل مدينة القاهرة، تبدو مدينة مسقط الرأس مثالاً للمدينة ــ المنفى، مدينة البوليس والبغاء والزيف، حيث المال سيد الموقف، والرجال والنساء يبيعون أنفسهم من أجل النفوذ والمال. إن الراوي، الغريب عن البلدة، يحاول كتابة تاريخها، والكشف عن «أكاذيب مثقفيها وادعائهم ورعب نسائها من الجنس، وجشع تجارها بكروشهم الكبيرة، وقاماتهم القزمة ووجوههم المترهلة البيضاء وأصواتهم النسائية… والحقد الذي يملأ قلوب صغار موظفيها». ويحكي الراوي أنه أتى إلى البلدة مقيد اليدين في إحدى عربات البوليس لينفذ به حكم الإقامة الجبرية بعيداً عن قريته بتهمة الإخلال بالأمن، حيث يجد نفسه شاهداً على وحشة المدينة وقبحها وموت البراءة فيها، واهتراء نسيجها الاجتماعي الذي يتشكل من آتين من القرى والمدن الشامية المجاورة، ومن شخصيات إنكليزية لا منتمية آتية لتجرب حظها، في الجنس والحب، في هذه المدينة الطالعة على أطراف الصحراء الشامية.
القرية ــ مسقط الرأس هي المكان الذي يعادل الإحساس بالبراءة واليقين حيث يستعيد الراوي في مواضع قليلة من الرواية حنينه إلى «البلدة الصغيرة التائهة بين الجبال»، و«الشوق إلى الإحساس القديم بمحدودية العالم وباليقين.. إلى خلود الإنسان الذي لا يعرف الخوف من الموت ولا القلق»، وكذلك عندما يستعيد صور الأرض المشمسة ومشهد الحصادين الذين يتناولون طعامهم وقت الظهيرة، والنساء وهن يتحلقن حول أباريق القهوة المرة، أو يحلم بأنه يطير فوق القرية ويهبط فوق قبة الكنيسة.
إذا انتقلنا إلى «البكاء على الأطلال»، فسنجد أنها تعتمد أسلوب المعارضة Pastiche تقنيةً أساسية تنبني فصول العمل الروائي حولها، وتبدو المادة التاريخية المقتبسة من كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني موضوعاً للمعارضة في موضع معين من الرواية، وللمحاكاة الساخرة كذلك، ولتأمل الحالة الشخصية للراوي في ضوء تلك الحكايات التاريخية المقتبسة في مواضع أخرى. وبغضّ النظر عن درجة معقولية استخدام هذه التقنية الأسلوبية في بناء العمل الروائي، ومدى إسهامها في توضيح معنى العمل وتكثيف الدلالة من خلال هذا الاستخدام، فإنّ «البكاء على الأطلال» محاولة لإضاءة نص روائي حداثي، يعتمد بصورة أساسية على الحلم، وهو حلم يقظة بصورة لا تخطئها العين في الرواية، عبر معارضته حلمَ اليقظة وهلوسات الراوي الحسية الشهوانية (التي يتمازج فيها الهلع الشديد من فكرة الموت مع الإحساس ببرد العالم والحنين إلى الطفولة) بمادة تراثية تدور حول الشهوة العارمة والغُلمة والمثال الحسيّ التراثي المجسد في حكاية عائشة بنت طلحة مع من أحبوها وتزوجوها بحسب ما يروي أبو الفرج في «الأغاني»، لكن هذه المعارضة لا تكتمل إلا في إطار بعث حلم يقظة يتكوّن من زمن الطفولة، وتذكر الراوي مشهداً مستلاً من ماضيه في القرية ليمثل هذا المشهد فعل تحفيز للعمل الروائي، ويعيد الراوي، بالاستناد إليه، تركيب المادة السردية ويتمكن من ثمّ من تأويل حاضره وسقوطه في يأس شامل وعلاقات جسدية متعثرة وفقدانه القدرة على الاحتفاظ بمن يحب، ويمثل له الشفاء من السقوط في العدمية الحسية والروحية في آن معاً، في جو مدينة كبيرة لا تبالي بسكانها.
* ناقد فلسطيني