ترجمة: إسماعيل أزيات«إذا أفلحتَ هذه السنة في ولوج القسم السادس، اشتريتُ لك درّاجة هوائية!» قال الأب بصوته الأبحّ. لم يكن هذا الكلام وعداً ليحضّني على العمل، ولا دعوة لبقة لأصير أفضل. كان تحدّياً وجّهه إليّ الأب أثناء وجبة العشاء. أمّي رفعت عينيها ثمّ غضّتهما في إشارة عجز. صمتُ القبور تَلاَ كلماته. ما عدتُ جوعاناً الآن. كما لو أنّه طعنني في الظهر. الضحكة الهازئة التي أعقبت حديثه جمّدتني من الذعر. لعنتُ الحياة والطفولة في أعماقي. قطعة الخبز التي كنتُ بلّلتها بأدب بالمَرَق، ستظلّ في قعر الصحن وستتحلّل في حساء الخضر. تركتها رغماً عنّي لأظهر له أنّ فرحتي تسبق الطعام، على أنّ العشاء كان لذيذاً: طاجين بـ «سَبْعْ خضَارْ» تعرف أمّي تحضيره جيداً. كرة سدّت حلقي، لكنّني كنتُ أقاوم البكاء بكلّ قواي التي فضُلت لي. نجحتُ في ابتلاع دموعي وكنتُ مسروراً رغم كلّ شيء. أبيْتُ عليه هذه المتعة. أضحت وجبة الطعام بالنسبة إلي طويلة الأمد ونهايتها خلاصاً. إذا لم تنهمر دموعي، فقد كنتُ أبكي من الداخل، بعيون قلب وبحساسية طفل [...] في ذلك المساء، قرّرتُ أن أبكي وأن أقوم بفعل. بدا لي أنّ الانتحار يجيب بشكل مناسب على هذه الإهانة. سأكونُ ناعم البال، سأعثرُ على هدوء الموت وعلى صمت القبر. إلا أنّ خوفي من النار كان أقوى من خوفي من الموت. شفرة حلاقة الأب يمكنها أن تنهي المسألة. كان الفعل يبدو لي بسيطا جداً والموت تافهاً. سأكونُ هادئاً ولن أكون أبداً في متناول يده لكي يجعلني أتحمّل مزاجه السيّئ. لكنّ أحداً قال لي يوماً إنّ المنتحر ملعون إلى يوم القيامة ويُعدّ واحداً من الذين يطردهم الله من ملكوته. الانتحار يُذعرني وتخلّيتُ عنه على مضض.

عبد الكريم الوزاني ـــ «درَّاجة» (منحوتة، 1998)

[...] اتّخذتُ عندئذ قرار أن أثابر في القسم حتى لا أحسّني أبداً مذنباً ومضطرّاً إلى التوقّف عن تناول طعام ما.
نهاية السنة صارت امتحاناً عسيراً لكليْنا. أكثر بكثير بالنسبة إليه مقارنة بي لأنّه يوم النتيجة النهائية. لن ينجح لا في التحكّم في غضبه، ولا في إخفاء مزاجه السيّئ. سيقول بأنّي نجحتُ فقط لأغيظهُ [...]
رتّبتُ الأمر حتى يكون لجميع أعضاء عائلتنا وجميع أصدقائنا علم بوعد الأب الذي اعتبرته كأنّه تحدٍّ. كلمات لن يتأخّر على أن يندم عليها. لم أتوقف مطلقاً عن الحلم بهذه الدرّاجة الهوائية. خضراء، حمراء أو زرقاء. درّاجة ستسمح لي بالفرار نحو المروج والطرقات الضائعة. سأمضي أسرع من الأب. أسرع من الرّيح. سيراني رفقائي أمرّ أمامهم وسيحسدونني على الحظ الذي منحتني إياه الصدفة وانعدام فطنة الأب. استمرّ الحلم عشرة أشهر وأخلى المكان لخيبة الظنّ. الدرّاجة لا توجد الآن سوى في رأسي. تجنّبتُ أن أذكّر الأب حتى أوفّر على نفسي غضبه. كنتُ أعلمُ، مع ذلك، أنّه سيُشرّفُ التزامه، وإن لم يكن إلا لكيلا يفقد مصداقيته وسط الأسرة. في إحدى الأمسيات التي كان مزاجه فيها رائقاً، طلب من أمّي تحضير شاي بالشيبة. ذاق كأسه الأولى وخاطبني بنبرة سارّة: «وعدتك بدرّاجة هوائية مكافأة لك على نجاحك. إنّي رجل صادق الوعد. ستكون لك درّاجتك. ستمضي عندئذ أسرع من الرّيح، أسرع منّي!».
تفاجأتُ لهذا الإعلان. كيف خطرت له أفكاري؟ أكبر ثأر لي كان أن أمضي أسرع منه. هذه الدرّاجة ستفتح عهداً جديداً في علاقاتنا. ستمنحني حرية أكبر وثقة أكثر. الزمن سيتسرّب من تحت عجلات هذه الآلة. سأكون واحداً من الأطفال الأكثر سرعة في قريتي. السرعة تغرقني من الآن في النشوة وأحسّ أنّ لديّ أجنحة محلّ الأقدام. لم أحسن القول لأنّي، بأجنحة في الأقدام، لن أطير بعيداً.
في فجر صباح من صباحات أبريل، استقلّ الأب الحافلة ذاهباً إلى المدينة وقاصداً أن يشتري لي الدرّاجة الهوائية ذائعة الصّيت. كل القرية كانت على علم بالحدث. أتى رجال لتحيّة الأب في المحطّة ومتمنّين له سفراً طيّباً. الأطفال ينظرون إليّ بغيرة وحسد. بعضهم اقترب منّي ومحضني صداقته. تعاظم فيّ الزهو والذين تفضّلت عليهم بالتحيّة أو بالنّظرة، كانوا في نشوة من الفرح. كنتُ مركز الأرض.
حين انطلقت الحافلة في ضجّة جهنّمية، صرخات ابتهاج رافقت الآلة في تحرّكها. قبل مغيب الشمس، ستكون لي درّاجة هوائية حمراء. كنت قد طلبتُ من أمّي أن تتوسّط لدى الأب أن تكون الدرّاجة حمراء. إحساس غريب ولا مثيل له استحوذ على كياني. إحساس سعادة جارف. كأنّ في داخل بطني، لم تكن هناك لا معدة، لا أمعاء، لا طحال، لا كبد، لا رئة، لكن فقط قلب يخفق في قفص صدري فارغ. وقلبي يدقّ حتى كاد يتهشّم من الفرح. جميع الصبية يتملّقونني، جميعهم كانوا مستعدّين أن يتمرّغوا تحت أقدامي حتى أقبل صداقتهم. كلّ كان يجهد نفسه حتى يظهر تعاضده وودّه عبر النظرات، الحركات أو الكلمات. كنتُ أتجنّبُ النظرات، أتظاهرُ بعدم معاينة الحركات وعدم الحديث مع أحد. كنتُ أجتازُ الطرق كأنّي أمير، تتودّد إليّ جموع تلازمني كظلّي. تصلني نتف من جمل، وهذا كان يزيد من زهوي. «إنسان هائل!»، «إنّه الأفضل بيننا جميعاً!»، «إنّه صديقي!»، «لا نفترق نحن الاثنين أبداً!»، «سأحميه ضدّ كلّ من أراد استغلال لطافته»... كنتُ أستمعُ، ضاحكاً، إلى هذه التعليقات من دون أن أردّ عليها. سلطتي على الصبية كانت مطلقة. سأكون أوّل أولاد القرية المشاغبين الذي يمتلك درّاجة هوائية. وستكون حمراء. سأمضي أسرع من الآخرين، أسرع من الريح نفسها وبالأخصّ أسرع من الأب!
هذا اليوم كان أطول يوم في حياتي. كما لو أنّ البندول العظيم للزّمن انكمش [...]
وصلت الحافلة قبل هبوط الليل. الجميع كان هناك. حتى الإمام والمُقدّم. جمْع من الصبيّة حوّم حول الآلة المخنوقة الأنفاس. انفتح الباب وظهر الأب أخيراً، لافّاً نفسه في عباءته السوداء الواسعة. صيحات تعالت من كلّ جانب. صافح الرّجال الذين كانوا ينتظرون عودته وقبّل الإمام والمُقدّم على الوجنات. استخبروه عن أنباء المدينة.
«هناك، شيء آخر، جَزَمَ الأب، الناس جدّ متعجّلين. يركضون في كلّ الاتجاهات. أتساءل إذا كان لهم الوقت ليفكّروا في الوقت، إذا كان لهم الوقت ليتذوّقوا برودة ماء العين، ظلّ شجرة أو تغريدة طائر. حتى إنّي أظنّ أنّهم لم يروا مطلقاً شجرة، لم يشربوا مطلقاً ماء نبع، ولم يسمعوا أبداً شدو عصفور. يشربون الماء في قنّينات، لهم نباتات بلاستيكية ويستمعون الموسيقى من الرّاديو. ليس لهم أصدقاء لأنْ ليس لهم الوقت يكرّسونه لهم. هم على الدّوام وحيدون، مسجونون في هياج كبير، في عياء كبير».
قطع الأب حديثه لأنّ مساعد السّائق كان قد أزال الغطاء الذي كان يغطّي الأمتعة على السّطح. كلّ الأنظار كانت مشدودة إلى سطح الحافلة. تسارعتْ دقات قلبي. الصّبية أحاطت بي ترمقني بنظرات حنونة. أخذ المساعد يقذف الأكياس والصّرر التي كان رجل مفتول العضلات يتلقّفها في الهواء قبل أن يسلّمها إلى أصحابها. مثلّث من حديد انتقل من يد إلى يد. تناوله الأب ومدّه إليّ من دون أن ينظر في اتّجاهي. التقطتُ قطعة الحديد متفحّصاً النظرات حولي.
«هيكل درّاجة هوائية»! هتف متعجّباً أحدٌ ما من بين الحشد. لقد كان هيكل درّاجة هوائية. هيكل ضخم. في ما بعد، سيُعلمني أحد الأصحاب أنّه هيكل 950: الأكبر حجماً. على امتداد الطريق الذي يفصلنا عن البيت، كنتُ أقولُ في نفسي إنّه بالتأكيد توجد في أحد الكيسين جميع القطع الناقصة. المقود، الفرامل، الدوّاسات، المقعد، الأشرطة المعدنية التي تغطي أعلى العجلات، الإطارات المطاطية، الإطارات الداخلية التي تُملأ بالهواء، آلة منبّه، المصابيح... كلّ هذا كان بالتّأكيد في أحد الكيسين. لكن لم يتّضح لي أيّهما يمكن أن يضمّ إطارات العجلة المعدنية. كنتُ مشغول البال. خائب الظنّ قليلاً. تعقبنا الصّبيان حتى بيتنا. أمّي كانت تنتظرنا عند عتبة الباب، الوجه مشرق. أفسحت المجال للأب الذي وضع الكيسين في الممرّ. اقتديتُ به وذهبتُ أجلسُ على المقعد الحجري. توضّأ الأب وأدّى جميع صلوات اليوم. استغرق منه هذا على الأقل ساعتين. حين انتهى، كان العشاء جاهزاً. أكل، نهض يلقي نظرة عبر النافذة، تلذّذ بشايه الممزوج بالشيبة، نظف الأسنان بعود ثقاب مستعمل، شكر السّماء على نعمها، أخطر أخواتي بالذهاب إلى النوم، استنشق حصّته المعهودة من مسحوق «الطابا»، عطس عدّة مرّات حتى كادت الحيطان تتحطم، مسح أنفه وشاربه، أعاد مِنْشَقَتَهُ إلى جيبه، حكّ ردفه الأيمن، انتزع طاقيته حتى يترك صلعته تتنفس، شرع يتمتم... كنتُ أفكّرُ: كلّ هذا وقت ضائع، مبدّد في حركات حدّ الإضحاك. هناك، الناس يصنعون، يعيدون صنع العالم بينما الأب يحكّ جسمه، يضرط أو يستنشق مسحوق «الطابا». لم يكن متعجّلاً، وما كان متعجّلاً قط. كان يأخذ دائماً وقته ليشرب شايه، ليداوي الأحصنة الأربعة التي فضُلت له، ليؤدّي واجباته. إذا قمتُ بحساب هذه السّاعات، يمكن أن أقول إنّ نصف عمره تبدّد في حركات في غاية الفقر. في قريتنا، لم يكن للزّمن اعتبار.
عشر دقائق قبل ذهابي إلى النّوم، خاطبني الأب بهذه الكلمات: «لقد برهنتَ على ذكائك بنجاحك في السنة الماضية. لقد أعطيتُ وعداً أحرصُ على الوفاء به. اشتريتُ لك هيكل درّاجة هوائية، وكلّما ذهبتُ إلى المدينة، اشتريتُ لك ما ينقص».
كظمتُ صرخة سخط وثورة. بكيتُ هذه الليلة أكثر من أيّ وقت مضى. الخيانة كانت محسوبة بعناية، لكن صعبة التحمّل. لا أحد في مقدوره أن يجد لها عذراً ولا حتى أن يبرّرها. كنتُ جدّ تعيس لأغفر للسماء الظلم الذي كنتُ ضحيّته. تطلّب الأمر في الأخير خمس سنوات لتعثر الدراجة على جميع أعضائها.
[..] لمّا صارت أخيراً جاهزة، حرص الأب على أن يُجرّبها قبل أيّ كان. تشكّل تجمهر صاخب أمام بيتنا. كلّ القرية كانت على علم بصنيع الأب والرجال جاؤوا لتهنئته. أمّي كانت تنظر عبر النافذة مُخفية بشكل سيّئ فرحتها وابتهاجها. ارتدى الأب أجمل ملابسه. أحدهم جاء بصينية الشاي احتفاء بهذه المناسبة العجيبة. كانت الكأس الأولى من حقّ الأب التي ذاقها وشفتاه تتمتمان علامة استحسان. الإثارة كانت في أوجها. كنتُ الوحيد الذي لا يشارك في هذا الاغتباط الجماعي ولا في فرحة الأب. أدركتُ أنّني كنتُ طوال الوقت بعيداً من الحدث وأنّ وحدتي كانت رهيبة. الصّبيان لم يعودوا يُعيرونني أيّ اعتبار. الإعجاب الذي كنتُ موضعه حتى هذا اليوم انتهى تاركاً مكانه للامبالاة تدعو إلى الرّثاء. كلّ الأنظار اتّجهت نحو الأب ونحو الآلة المُسْنَدَة إلى الجدار الذي تمّ تجييره حديثاً لهذا الغرض. كنتُ أنظرُ من بعيد منزعجاً من هذا المشهد الفظ. الخيانة كانت لا تُطاق. أفكار الهروب والانتحار أصبحت تحتل ذهني مرّة اخرى. كنتُ مُبتلى بقسوة في كبريائي وفي هشاشتي. الأب اغتصب مقامي في هذا الجمع من النّاس؛ المقام الذي أستحقه والذي حُزته منذ البداية: المركز. مركز اهتمام وإعجاب الكبار وعلى الخصوص الصّغار. ألمْ يكنْ في إمكان الغول أن يفهم أنّ هذا الأمر كان حيويّاً بالنسبة إليّ، مسألة كبرياء، بمعنى مسألة حياة أو موت؟
ساعة الاختبار العظيم اقتربت. واحد من الرّجال المرتدين للباس أبيض قرأ بصوت مرتفع الفاتحة، أوّل سورة في القرآن، حتى يُعين الأب ويطرد القدر الشرّير. برأس مرفوعة وهيئة مسرورة، خلع الأب جلبابه وبحث عنّي بعيونه حتى يعهد لي بها. تجنّبتُ نظراته المتوقدة عجرفة. امتطى أخيراً الدّابة في هيئة مسرحية ومتصنّعة. تفرقعت في الحال صيحات منفعلة وتصفيقات من كلّ الجهات. حتى أنّي اعتقدتُ، من حنقي، أنّ أمّي أرسلت زغرودة للتعبير عن تواطئها مع الأب. هذا الأخير استقرّ مستريحاً على المقعد وداس على الدوّاسات. انطلق الحشد المزيج يتحرّك كسرب من الذباب يطنّ حول جيفة. كان الأب في المقدّمة. النصف الأعلى منتصب والنظرة برّاقة. أمّا أنا، فلم أتحرّكْ مكتفياً بمتابعة المشهد عن بُعد. طفولتي غُدر بها. أبي سرق منّي حلمي.
والجمهور الصّاخب ما زال يتبعه، دخل الأب منحدراً فيه انعطاف واختفى. سريعاً، لم أعد أميّز شيئاً إلا الرؤوس المهتزّة بفعل سباق مجنون، لمّا سمعتُ فجأة ضجّة حديد قويّة وفي الوقت ذاته اصطداماً عنيفاً متبوعاً بصيحات مُصِمَّة. أغلقت أمّي النافذة على الفور مُطلقة صرخة يأس. رابطَ الجأش، كنتُ أنتظرُ تتمّة الأحداث. تمّ إرجاع الأب على ظهر حمار. ثيابه كانت كلّها مُمزّقة ومُغطّاة بالدّم. كانت ساقه اليُمنى مكسورة وجروح على الوجه. أحدهم تكفل بجمع بقايا الدرّاجة في قفة وضعها قرب أقدامي. خيبة الأمل والحزن كانا يُقرآن في عيون النّاس. كان الأمر مُرعباً. بقيتُ كالرّخام. أمّي، حتى تُعطي انطباعاً حسناً، بكتْ شاكية قدرها. بعض الجارات هرعن ليُقاسمْنها عبراتها وغمّها. مُدّد أبي فوق سرير وسط دموع أخواتي وصيحات أمّي. الله، القدر، اللّعنة أتوا للانتقام لي. أخذتُ القفة وأمسكتُ بمعول. حفرتُ حفرة في المكان ذاته الذي شهد نكبة الأب ودفنتُ الكلّ فيها. ما عُدتُ بعدُ في حاجة إلى الجري، في حاجة إلى عجلات، في حاجة إلى آلة لأنّني، كما كنتُ أقولُ في قرارة نفسي، بدرّاجة هوائية أو من دونها، سأمضي من الآن فصاعداً أسرع منه!

(*) روائي وشاعر مغربي؛ باحث مختصّ في الدراسات النفسانية (مواليد 1950). النص مأخوذ من المجموعة القصصية:
Les prolétaires de la haine, Paris, Publisud, 1995.