العقل الإسرائيلي الذي تأسس على منطق «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» لم يكن – وفقاً لنصوص موثقة - غافلاً في أي لحظة عن وجود الفلسطيني كنقيض ينفي معادلة التأسيس تلك، ولم يحدث أن ترددت القيادات التي تولت إدارة الكيان منذ ما بعد انكسار الثورة الوطنية الفلسطينية (1936 – 1939) في اعتماد مثلث الإبادة-التهجير-الإلغاء، إستراتيجيّةً مرجعيّة لفرض واقع عبريّ على الأرض: ذبح استعراضيّ لكل من تصل إليه اليد الصهيونيّة من سكان فلسطين العرب حتى من عاهدهم منهم على الصلح، ثم دفع الناجين نحو هجرة قسريّة، متوافق عليها مع الأنظمة العربيّة، يليها برنامج إلغاء مكثّف لكل أثر مكاني للفلسطيني يمكن أن يعتد به يوماً للعودة: أمنزلاً كان أو مؤسسة خاصة، أو بنية مجتمعية.

في غزة اليوم، يستعاد مثلث الإستراتيجية المرجعية بحذافيره: إبادة ممنهجة للسكان (يصل عدد ضحاياها في بعض التقديرات التي لا تثق بأرقام الطرفين الرسميّة إلى ربع مليون نسمة حتى الآن، إلى جانب عشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين)، وتجويع وتعطيش وإرهاب وتهجير محليّ للوصول بالناجين إلى نقطة الفرار بالنفس من موت محقّق، يوازيه تدمير دقيق لكل مقومات البقاء المكاني-البيئي للفلسطيني فرداً ومجتمعاً.
واللافت أن هذا التنفيذ الأحدث للإستراتيجية الإسرائيلية المرجعيّة الذي يتم بتأييد وتفهّم ومشاركة فاعلة أحياناً من قبل القوى الغربيّة والأنظمة العربيّة، يمرّ بلا موقف تقريباً من الكتلة الأهم للمشتغلين في الثقافة والأكاديميا والأدب في العالم العربي التي تشاغلت عن شلال الدّم الفلسطيني المهدور بكل أمر سوى الدم المهدور. الكتلة نفسها التي انتفضت ذات ربيع مزوّر ضد الأنظمة الوطنية، وخرجت عن أطوارها المحليّة لتدعم نضالاً مزعوماً للمرأة الإيرانيّة، لم تجرؤ حتى على إدانة تقنية لما يجري على صعيد الإبادة الثقافية متمثلاً بالشطب المتعمد لكل مؤسسات التعليم والثقافة والمواقع الأثرية في قطاع غزة. لقد وثّقت منظمات محليّة وأممية مثلاً استهدافاً موازياً لحرب الإبادة الجماعيّة ضد السكان للمساس بكل المواقع الأثرية في قطاع غزة ومعالم تاريخها الممتد لآلاف السنين، بما في ذلك ما لا يقل عن 200 موقع مسجّلٍ على قوائم مختلفة للتراث الإنساني تعرضت للتدمير الكامل، إلى جانب تفجير مباني كل الجامعات والكليّات والمكتبات والمؤسسات الثقافية ومعظم المدارس.
هذا الخذلان التاريخي الأبعاد من قبل الكتلة الأهم للمشتغلين العرب في الثقافة والأكاديميا والأدب للشقيق الفلسطيني يزداد اسوداداً مع مبادرات ذاتية يقوم بها مشتغلون في الثقافة حول العالم. من أوسلو مثلاً، دبّج سبعون من موظفي المتحف الوطني النرويجي عريضة الأسبوع الماضي ضدّ إدارة المتحف طالبوها فيها بدعم النداءات إلى وقف إطلاق النار في غزة، وقيادة الدعوة لحماية التراث الثقافي الفلسطيني. وقد نظمت المجموعة من خارج البرامج الرسميّة للمتحف عرضاً من أجل فلسطين تحت شعار «الثقافة ضد الإبادة الجماعية»، وجمعوا توقيعات مؤيدة لعريضتهم من حوالى 2000 فنان ومتحفيّ ومشتغل في الثقافة.
هؤلاء السبعون، المقيمون على حدود القطب الشمالي في أبعد نقطة أوروبيّة عن غزة قالوا إن «الاعتصام بالصّمت، وعدم قول أي شيء عما يحدث في غزة اليوم، هو بمنزلة سكوت وموافقة ضمنيّة على الإبادة الجماعية، وتدمير لجزء من تراثنا الثقافي الإنساني المشترك». أما هنا، في جوار فلسطين، فلا حياة لمن تنادي، لا مثقفين، ولا غيرهم.